.
من السذاجة أن نعتقد أنه بعد انتهاء المسار القاتل لفيروس كورونا سنعود جميعاً وكفى إلى «حياتنا العادية». فإلى جانب التغيرات الهيكلية العميقة التي أفرزتها بالفعل هذه الجائحة في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هناك مخاوف أيضاً من التأثير النفسي للأزمة وعدم الاستقرار العام الناتج عن كل هذه التغيرات. ورد فعلنا على هذه الصدمة هو ما سيشكل في نهاية المطاف طريقة رؤيتنا للحياة والعالم وتعاملنا مع التحديات في نظام ما بعد الجائحة. وقد شهدنا هذا مراراً في تاريخ الولايات المتحدة وتاريخ العالم.
أثناء القرن الماضي، تمخض تأثير الحربين العالميتين والكساد الكبير عن زعزعة استقرار اقتصادية واجتماعية أدت لاحقاً إلى حركات تحول عميقة. فقد أذكت الحربان حركات قوية للعداء للأجانب تسبب في معاناة هائلة لملايين المهاجرين وأبنائهم. ومع ذهاب أعداد هائلة من الشباب إلى ميادين القتال دخلت النساء مكان العمل لملء الوظائف الشاغرة. كما انتقل الأميركيون السود شمالاً بحثاً عن عمل. ونمت صناعات جديدة ومدن جديدة مع انتعاش اقتصاد زمن الحرب لمواجهة حاجات جيش صاعد.

ومع انتهاء الحرب وعودة المقاتلين إلى ديارهم، شعر كثيرون بالصدمة والضياع ولم يعد بمقدورهم العودة إلى سابق عهدهم. وأدت عودة البعض إلى وظائفهم السابقة إلى الإطاحة بالنساء والأميركيين السود الذين كانوا يشغلون وظائف العائدين. وهذا الحال ألقى بذورا ستنمو لاحقاً لتصبح حركة النساء والحقوق المدنية في الشمال. والصدمة التي تسببت فيها حرب فيتنام كان لها تأثيرات شديدة أيضاً. وآلام الضياع في هذه الحرب، مازالت تطارد حياة الناجين وأسرهم. ولفترة من الوقت، ضاعف قدامى المحاربين المحطمين نفسياً صفوف المشردين والمدمنين في المدن.
وأدى الجدل الذي أثارته هذه الحرب التي لم تحظ بتأييد شعبي إلى انقسام شديد في المجتمع الأميركي. ففي جانب وقف «الوطنيون» الذين يلوحون بالعلم الأميركي وعلى الجانب الآخر شهدنا ظهور حركة رفض ثقافي تحدت وغيرت الأعراف الثقافية الأميركية. وهذه الانقسامات مازالت تطارد «جيل فيتنام» حتى اليوم. لكننا لسنا بحاجة إلى العودة إلى حروب القرن الماضي أو الكساد الكبير والتحولات التي تسببت فيها هذه الصدمات المزعزعة للاستقرار. بل كل ما يتعين علينا هو النظر إلى تأثير الركود الكبير بين عامي 2008 و2009.

ففي نهاية عام 2008، عصف انهيار مالي مفاجئ بالاقتصاد الأميركي. فقد كانت البنوك تغلق أبوابها وكانت الصناعات الكبيرة على وشك الانهيار والأسواق المالية كانت تنهار وفي حالة فوضى. وفي غضون شهور قليلة، شهدت الطبقة الوسطى الأميركية نفاد صناديق التقاعد وتضاعفت البطالة وكان 20% من ملاك المنازل مهددين بنزع منازلهم. والتأثير الآني تجلى في استطلاعاتنا للرأي. فقبل ذاك الوقت، حين كنا نطرح السؤال الذي يمثل الحلم الأميركي وهو «هل سيكون أطفالك أفضل منك حالا؟»، كانت نسبة الذين يجيبون بالإيجاب تبلغ الثلثين. لكن بعد الركود، انقلبت النسبة لتصبح نسبة الثلثين هي التي تجيب بالنفي.

لكن الناخبين استجابوا على الأزمة ليس بالانسحاب في خوف بل تشبثوا بالأمل في مستقبل أفضل بانتخابهم باراك أوباما رئيساً في انتخابات نوفمبر 2008. لكن «الجمهوريين» انتهزوا فرصة نقاط هشاشة الطبقة الوسطى المتضررة، وشنوا حملة ممولة جيداً ومنظمة للتشكيك في ميلاد باراك أوباما في الولايات المتحدة. واستغل «حزب الشاي» الاستياء العرقي والخوف من المهاجرين والأقليات وخاصة العرب والمسلمين، وهو ما أذكوه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومن المثير للسخرية أن عدم الثقة في الحكومة عززته الحروب الفاشلة التي قادتها إدارة بوش وسوء تعاملها مع إعصار كاترينا.
وربما يمكننا القول إن بذور التأييد لترامب وضعت في هذه الفترة. لكن، بينما كان الحزب «الجمهوري» هو ما وضع البذور، لكن الصدمة التي تسببت فيها هجمات الحادي عشر من سبتمبر والركود الاقتصادي بين عامي 2008 و2009 هي ما أوجدت التربة الخصبة لهذه البذور لتنمو وتنتج ثمارها المرة.
وفي قلب أزمة جائحة فيروس كورونا، نشهد صدمة أخرى للنظام. فقد ارتفعت البطالة بشكل كبير وأُغلقت المدارس والأنشطة الاقتصادية والكنائس وكثير من الأنشطة الاقتصادية الصغيرة. ويزدهر اقتصاد غير رسمي لزمن الحرب يقدم فيه أفراد الخدمات المطلوبة ومرشحو المناصب بالانتخاب اضطروا للانسحاب أو تغيير طريقة تواصلهم مع الناخبين، كما أُرجئت انتخابات وأُلغيت مؤتمرات سياسية. ومراكز المدن أصبحت خاوية على عروشها مع أداء كثير من الموظفين لعملهم من المنازل واستدانة الحكومة بشكل هائل تحسبا لانهيار اقتصادي. ويعيش ملايين الناس في عزلة إجبارية والضغوط والمخاوف من المرض وعدم اليقين الاقتصادي ترهقهم.

وذات يوم سنكتشف طريقة فعالة لمعالجة هذا الفيروس أو لقاح لحمايتنا منه. وحينها سينتهي الإغلاق وقد نعود إلى العمل. لكن هل سنعود إلى الحياة كما كنا من قبل كما يتنبأ البعض بسذاجة؟ أم ستغير التحولات التي نعيشها الآن طريقتنا في الحياة؟ فقد أثار عدد من المقالات نقاشاً حيوياً عما يحمله المستقبل لاقتصادنا ومؤسساتنا الاجتماعية والسياسية. لكن بصرف النظر عن التغيرات الهيكلية التي قد نشهدها، ما يهمني هو تأثير هذه الصدمة على نفسيتنا الجمعية. ولا يمكننا التنبؤ بما سيحدث، لكن من المؤكد أن الصدمة والخوف الناتجين عن الجائحة يحرثان الآن أرضاً خصبة لحركات اجتماعية وسياسية في المستقبل. فكم يستغرق اختمار هذه الحركات؟ وكم عددها وما الرسائل التي ستحملها ومن سيقودها وما مدى فعاليتها وفترة تأثيرها؟ كل هذا لا يمكننا التنبؤ به، لكن علينا أن نعلم أننا لن نعود ببساطة إلى ما كنا عليه قبل الجائحة.
رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن