تعود البيوت من جديد وكما كانت في منشئها مركزاً للعمل والتعليم والعبادة، لقد بدأت البيوت في الحضارة الإنسانية فكرة مقدسة، ولذلك منحت البيوت على مدى التاريخ وفي جميع الحضارات حرمة وقداسة، ويردّ مؤرخون اجتماعيون فكرة القربان الذي يقدمه الناس عادة عندما يسكنون بيتاً جديداً إلى أنه استئذان الإله في الإقامة في البيت والتزام أيضاً أمام الإله أن يظل هذا البيت مقدساً كأنه معبد، فأول بناء أقامه الإنسان كان يعتبر «بيت الله» للعبادة والاجتماع الإنساني العام، ولم يتخذ الإنسان بيوتاً دائمة للإقامة إلا في فترة متأخرة من التاريخ الإنساني.

يتوقع أن تطلق عودة الناس إلى البيوت لأجل العمل والتعليم والعبادة اتجاهات حضارية وعمرانية واجتماعية جديدة أو في عبارة أصح عودة إلى قيم واتجاهات اجتماعية سابقة، لكنها مصحوبة هذه المرة بتكنولوجيا متقدمة للتواصل بين الناس والمؤسسات ولتنظيم الأعمال كما التعليم والتعلم والتدريب،.. ففي الاستخدامات الجديدة للبيوت يتغير تصميمها لملاءمة الأغراض التي أضيفت إليها حتى تكون ملائمة للعمل والتعليم.
كانت البيوت ومازالت نواة المدينة، وفي علاقة البيوت وساكنيها بالحي والمدينة تشكلت الشوارع والأرصفة والأسواق والأعمال، ويكون صحيحاً لو قلنا إن المدينة هي الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة ويعودون إلى البيوت، والمواطنون الذين يذهبون إلى الأعمال والساحات والأسواق ويعودون إلى البيوت، فهي قائمة أساساً على البيوت والمشي على الأقدام في محيطها، ثم غيرت المركبات بالطبع فلسفة البيوت والمدن، ففي القدرة على الابتعاد كثيراً عن البيوت امتدت الأسواق والمدارس، وانتشرت أماكن الإقامة، وظهرت لأول مرة في التاريخ المدن العملاقة.
اليوم يجد الناس حاجة للانكفاء وأن تكون بيوتهم أكثر راحة وخصوصية، وتقل الحاجة إلى الشوارع الواسعة والمركبات الخاصة، فتزدهر خدمات التوصيل والنقل العام، وفي الفرص والمقدرات التكنولوجية الجديدة سيكون في مقدور الإنسان أن يجعل بيته مدينة. وتكون وصفاً دقيقاً للمستقبل قصيدة الشاعر روبرت لويس ستيفنسون (1850 – 1894) التي يصف فيها بيته أنه مدينة، فيجعل من الكنبة جبالاً والسجاد بحراً، ويبني في القلاع والقصور والمعابد والموانئ والمطارات وسكك الحديد والحدائق والغابات والسفن الآمنة في الخلجان!..
هكذا، بعد أن تبدأ البيوت تعكس الطبيعة والمجتمع والثقافة والإقامة والعمل والتعليم والتعلم والعبادة والإضاءة والتدفئة والتهوية والأمان والنظافة والصحة والخصوصية والجمال، تعكس أيضاً الفرص الجديدة في أسلوب الحياة، إذ يمكن أن تبتعد البيوت إلى الضواحي وتكون أيضاً مصدراً لتوفير وتصنيع الغذاء والزراعة وتربية المواشي والطيور وورش الأعمال والحرف، وفي وفرة الوقت لدى الناس الناشئة عن الاستغناء عن الذهاب والعودة تنشأ فرص جديدة للتماسك الاجتماعي والهوايات والقراءة والموسيقى والفنون والآداب.

إن إدارة أزمة كوفيدـ 19 تنشئ حقيقة ثقيلة، فما أمكن الاستغناء عنه سيظل الاستغناء عنه إلى الأبد أمراً وارداً، وما استخدم كبديل من أفكار وأعمال وتقنيات ثم نجح استخدامه، يتحول إلى أصيل ودائم، وخاصة إذا كان أقل كلفة وجهداً. فليست السياسة والاقتصاد والثقافة سوى تشكلات حول أساليب ومصادر الحياة والعمل والموارد.

وهكذا أيضاً سوف تنشأ بالتأكيد تحولات اجتماعية وثقافية أعمق مما سبق، فالإنسان الذي يعيش أو سوف يعيش في بيته مثل مدينة وينكفئ مثل دير يُنشئ في هذه الاستقلالية والخصوصية مساواة بين الناس في الفرص والعمل والتأثير والموارد، وتتغير اتجاهات وأفكار المشاركة الاقتصادية والعامة، وتتغير أيضاً أدوار وعلاقات المؤسسات التنظيمية والإرشادية،.. نتحدث بطبيعة الحال عن عقد اجتماعي جديد.
*كاتب وباحث أردني