الاحتفالات هذا الشهر بمرور 30 عاماً على إطلاق التلسكوب الفضائي «هابل» مناسبة كونية. وتلسكوب «هابل» يواصل بث صور الكون الذي يراه البشر لأول مرة في التاريخ، كما لم يروه من قبل، وهو يرينا مجرات وغيوماً سديمية ساحرة الجمال مضت عليها أزمان أسطورية، تُقّدرُ بمليارات الأعوام، ونرى بعضَها الآن وقد اختفى من الوجود. و«هابل» مثل ألبوم صور قديمة لعائلة توفي أعضاؤها منذ زمان. ويبثُ الرهبةَ سديمُ «العين الإلهية» الذي يشبه عيناً جبارة تحدق بنا. وهو أقرب سديم للأرض، اتساعه سنتان ونصف السنة ضوئية، أي أكبر من المنظومة الشمسية. والسديم غيمة ثابتة، ويكتم الأنفاس منظر سديم «العنكبوت الذئبي» الذي يشبه ذئباً يفترش السماء كالعنكبوت.
وجعلنا «هابل» نرى دورة الكون الأبدية، في ميلاد نجوم ووفاة نجوم تلد منها نجوم جديدة، وبواسطته رأينا مولد 3 آلاف نجمة في عنقود نجوم اسمه «ويسترلند 2» تتألق في كوكبة «كارينا». والعنقود في حسابات الكون فتي جداً، عمره مليونا سنة فقط، ويضم بعض ألمع وأكبر نجوم مجرتنا وأشدها سخونة. وصورة السديم الأحمر، وشقيقه الصغير الأزرق جزء من غيمة «ماجلان» العملاقة في مجرة «درب التبانة» التي تضم المنظومة الشمسية، بما فيها كرتنا الأرضية، وهي تؤرخ لأحداث وقَعت قبل 163 سنة ضوئية. وَزّعَ الصورة بالمناسبة «معهد علوم التسلكوب الفضائي» في بالتيمور بالولايات المتحدة، الذي يشرف على إدارة «هابل» منذ عام 1990.
والتقط «هابل» عام 2002 صورة مجرّة «فرخ الضفدع» الحلزونية، وقد تَشّوّه شكلها الحلزوني بسبب معركة مع مجرّة قزمة، فامتد منها ذيل هائل طوله مئات الفراسخ الفضائية. وصار الذيل مناطق جديدة بالغة النشاط في تشكيل النجوم، وتراجعت الصدمات عبر ذيل مجرّة «فرخ الضفدع» لكن بقي شكلها الحلزوني على حاله. وبواسطة «هابل» أمكننا «رؤية الكون بوضوح، كما لو كنا نراه بالعين المجردة، حيث نرى خلف مجرّة (فرخ الضفدع) كل نقطة مضيئة تؤشر إلى مجرّة أخرى. ويمكنك اختيار منطقة صغيرة منها وتأسيس علم جديد عظيم». ذكر ذلك رائد الفضاء «جون غرنسفيلد» الذي غامر بحياته ثلاث مرات في التحليق إلى «هابل» لإصلاح عطل أصاب التلسكوب منذ تشغيله عام 1990.
و«كما لو كنا جالسين على مرتفع يحيط بنا الضباب من كل جانب، ونكاد لا نرى على بعد خطوتين من مواقع أقدامنا، ثم ينقشع الضباب وفجأة ونبدأ نرى الناس والكائنات والبيئة التي تحيط بنا على امتداد البصر». كتبتُ هذا في صحيفة لندنية قبيل إطلاق تلسكوب «هابل» مطلع أبريل عام 1990. واستمر «هابل» نحو ثلاثة عقود يُرسل صور الكون المهيبة الجمال، جعلت الناس يرون لأول مرة أحداثاً تقع على مسافة 63 ألف سنة ضوئية عن الأرض. وصور الكون التي يبثها «هابل» لوحات فنية ساحرة الجمال. ويمكن أن يتملاّها الآن أي شخص من بعيد في موقع «وكالة الفضاء الأميركية» (ناسا)، أو البحث عن Hubble بمحرك البحث «غوغل» في الإنترنت.
وأُطلق اسم «هابل» على التلسكوب، تثميناً للفتوحات العلمية لعالم الفلك الأميركي «أدوين هابل» (1889- 1953)، وهو أبرز علماء الفلك في القرن العشرين، ومؤسس علم فلك المجرات، والذي برهن على أن غيوم السديم هي مجرات بالأحرى. الإخفاق في تشغيل مرآة تلسكوب «هابل» الرئيسة، بعد إطلاقه حوّل الحماس العالمي الملتهب إلى خيبة أمل مؤلمة، دفعت رواد الفضاء إلى المغامرة بالانطلاق بمكوكات فضائية لتصليح التلسكوب في الفضاء المكشوف. وكانت تلك سنوات التشاؤم الفضائي العميق التي أعقبت انفجار «مكوك تشالينجر» ومقتل رواده السبعة. وصارت تحليقات فريق تصليح التلسكوب على متن المكوك «ديسكفري» ملحمة فضائية كأفلام الخيال العلمي: تمتد ذراع آلية تشد «هابل» إلى منصة المكوك، تُصلحُ المرآة المعطوبة، وترفع التلسكوب أعلى من موقعه المكشوف. و«الكون كل شيء». يعرف ذلك الآن الناس أيضاً، وليس الفلاسفة فقط.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا