لا يمكن الوقوف على أي حال روحية أو مادية تمضي في رحاب جائحة كورونا وركابها، إلا بالنظر إلى خمسة عناصر أساسية، أولها يتعلق بالطبيعة البشرية، أو الجينات الاجتماعية، التي تتكئ على قاعدة أن «الطبع يغلب التطبع»، وأن الصراع بين الخير والشر ولد ليبقى إلى النهاية. وثانيها يرتبط بتاريخ الأوبئة الذي يبين أنها قد مرت بلا إحداث تغيير جوهري عميق دائم في الأفكار والتصرفات. وثالثها يقوم على الحاجة الاقتصادية، وكيف أن ما يقدم عليه الناس في أيام الوفرة يختلف عنه في أيام الندرة. ورابعها يركز على المدى الزمني للوباء، فهو إن كف أذاه مبكراً، ستكون آثاره على الأرواح والأبدان أقل كثيراً مما لو أقام بيننا وأجبرنا على التعايش الإجباري معه. أما الخامس، فهو ما يتم الآن من جدل حول الوباء، وإجراءات بشأنه.
هكذا جاءت مقدمة مداخلتي قبل أيام في حوار عن بُعد، عقدته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو) لاستشراف مستقبل الثقافة العربية بجانبيها المادي والروحي في ظل كورونا، مع كل من وزير الثقافة التونسي السابق د. محمد زين الدين، والمدير التنفيذي لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة د. جمال بن حويرب، وحضور د. محمد ولد أعمر مدير عام المنظمة، د. حياة القرمازي مدير إدارة الثقافة بالمنظمة، والأستاذ عبد الهادي الغماري، د. سالي مبروك الخبيرة في التميز المؤسسي واستشراف المستقبل.
وقلت أيضاً، إن الناس توزعوا في موقفهم الروحي من الوباء إلى اتجاهات عدة، فهناك من قالوا إنه عقاب إلهي للبشر على تفريطهم في تعاليم السماء. وواجههم آخرون بأن ما جرى خطأ بشري غير مقصود وأن الله رحيم بنا، وعلينا أن نرفع إليه أكف الضراعة لينقذنا. ويوجد من رأى نوراً في هذه الظلمة الحالكة، منها التئام ثقب الأوزون بعد أن توقفت محركات المصانع، فأعلن التلوث عن هدنة. وهناك من يتأملون هشاشة المادية، وهم يرون مع كورونا حيرة العلماء، وعجز الساسة، وفقدان الثروة قدرتها على التغيير، ويدركون أن الموجود ليس فقط ما نلمسه ونحسه، وفق ما ذهبت المدارس الوضعية، إنما أيضاً ما نظنه فراغاً، وما لا نراه بالعين المجردة، وما لا نستطيع لمسه، والتحكم فيه.
هذا الفريق المتأمل يدرك عدة أمور، أولها أن العزلة فرصة لاستعادة ما فقدناه من علاقات دافئة في كنف الأسرة، وثانيها هو الشعور بالآخرين وأنهم لا يعيشون معنا، لكن يعيشون فينا، إذ أن مصيرنا مشترك، فكل منا يمكن أن يكون حائط صد لمواجهة الوباء، بدلاً من أن يكونوا جسراً لنقل المرض إلى الآخر. وثالثها هي الحاجة إلى مراجعة الفلسفات المادية البحتة، خاصة تلك التي تنظر إلى البشر على أنهم أسياد الطبيعة. ورابعها أن الجانب المعنوي والروحي والقيمي لقوة الدول يحتاج إلى رعاية وليست فقط القوة الخشنة. وخامسها أن الوباء ينبهنا إلى عبث الاستعلاء باسم العرق، أو الثقافة، أو الدين، أو المذهب، أو الطبقة.
وهنا يكون على المثقفين أن يعملوا على تحويل المحنة إلى منحة، بمواجهة الخطاب النفعي الذي يسيس الوباء لخدمة مسار ينزع إلى توظيف الدين في تحصيل السلطة، أو يستعمله في ترميم شرعيات متآكلة، والتصدي للخطابين العبثي والعدمي، اللذين يستهينان بالحياة، ورفض الخطاب الانعزالي الأناني الذي يعتقد أصحابه أن النجاة فردية، طالما أن الآخرين لامبالون، وطالما أن الدول أقامت الأسوار حول نفسها، وكذلك نبذ الخطاب الجسماني الذي يرى أن تقوية جهاز المناعة لمقاومة الوباء هو مادي الطبع، مرتبط بنمط معين من الغذاء، دون أدنى اعتبار للطاقة الروحية والسوية النفسية التي تمارس دوراً لا يقل أهمية في هذا المضمار.
وتجذير ذلك التصور بغية تحقيق الارتواء الروحي عند القاعدة العريضة من الناس، يخرج من مدار الفرد وجوانيته، إلى رحاب المجتمع وظاهريته، فيصبح مسألة ثقافية، تتوسل بالتعليم والفنون والهدي الديني، وجهد المجتمع المدني، وتعزيز الإيجابي من الموروث الشعبي.