التقدم والتطور هو انتقال من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر. والحاضر هو عمل للفرد والجماعة والأمة. فلا فراغ في حياة المرء إلا في الخيال الذي ينفي أبعاد الزمن الثلاثة. وهذا المسار من الماضي إلى المستقبل هو التاريخ، تاريخ الأفراد وتاريخ الأمم. فلا انقطاع في التاريخ. هو تواصل بين الماضي والمستقبل عبر الحاضر. فإذا ما انقطع الفرد عن ماضيه يكون ابن يومه، يعيش لحظة بلا تاريخ. وعلم أي أمة بماضيها هو أحد أسباب رقيها. تتعلم منه أسباب جمودها وإبداعها، تخلفها وتقدمها. ماضي الأمة هو ديوان رقيها وعمرانها ومثلها العليا المتجددة دائماً. ويتحقق ذلك من أداء الواجب في الحاضر دون نكران جهود السابقين وإعداداً لجهود اللاحقين. الماضي في خيره، والمستقبل في أمله، والحاضر في عمله. لا تغير إلا من خلال التواصل بين الماضي والحاضر، بين التراث والتجديد، بين الأصالة والمعاصرة، بين الثابت والمتحول في جميع المجالات: اللغة والثقافة والاجتماع والسياسة والدين. ولا يعني الثبات التحجر والموت، ولا يعني التحول الاغتراب والانحراف.. بل يضمهما معاً المثابرة على العمل. ولكل عمل قيمتان: القيمة الأصلية والقيمة المضافة.. الأولى من الخلود والثانية من الزمان.
والتقدم تطور يصنعه البشر، وقد صنعه الغربيون، ويسعى إليه الشرقيون دون تقليد النموذج الغربي بالضرورة. وهنا تتمايز الحضارات، ووسيلة ذلك تربية الفرد والجماعة، أي التربية الخلقية. وهي نظرة «سلفية» كانت سائدة عند كثير من مفكري القرن التاسع عشر والعشرين. فأسباب تقهقر الشرق ثلاثة: الجهل والكسل والادعاء. الجهل هو الظُّلمة التي تؤدي إلى الظلم والعبودية، هو التعصب والخرافة، هو الطاعة العمياء والأثرة الآثمة، هو الخوف والجبن والمذلة. والكسل هو الجمود والقناعة والفقر، هو المرض والشقاء والخداع، خداع النفس والغبن والخمول. والادعاء هو التظاهر بالكبر والخيلاء من خلال الألقاب والمقامات والوجاهات والعظمة الجوفاء. والنموذج الذي يريد المفكرون تقديمه للعرب، هدفه تحرير الإنسان من الجهل والفقر والخوف، والقضاء على الأوهام في العقائد والسياسة والاجتماع والدين.. ووسيلته الفكر الحر دون تحزب أو تعصب أو هوى. فالتقدم نحو الحرية، والوسيلة أيضاً الحرية. فالحرية غاية ووسيلة. والتقدم هو قبل كل شيء تقدم الوعي الإنساني. ولا يأتي التقدم من أعلى بل من أسفل.
ومن هنا أتت أهمية التربية، تربية الفرد والجماعة، تربية تقوم على أصولٍ عشرة تكوّن الأخلاق العالية وهي: الاعتماد على النفس، كرامة النفس، حسن الظن بالناس، حرية الإرادة، الجرأة الأدبية، نبذ الاعتقادات والتقاليد البالية، الصراحة في الصدق والقول، الاستقامة في الرأي والعمل، حب العدل والإنصاف، اللاطائفية في السياسة والآداب. وهي مبادئ عامة متداخلة يمكن ردها إلى مبادئ أعم هي ما ينبغي أن يكون إزاء ما هو كائن. ليست القضية إعلانها بل كيفية تحقيقها، ومن الذي سيربط الجرس في رقبة القط! ومع ذلك تتأقلم الأخلاق مع طبائع الشعوب وبيئاتها الجغرافية، كما لاحظ ابن خلدون ومونتسكيو. وبالتالي يتحرر الأفراد والشعوب لا عن طريق المصلحين ولا عن طريق السياسيين، بل يحرر الإنسان نفسه بنفسه، وأفضل تربية هي التربية الذاتية، أي مراقبة الإنسان نفسه بنفسه عن طريق يقظة الضمير.
والتطور مثل التقدم، سنّة طبيعية. فإذا صدق التقدم على الإنسان، فإن التطور يصدق على الطبيعة، وفق القانون ذاته.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة