رمضان شهر المناجات، والذكر والدعوات، والتوجه لرب الأرض والسماوات، وقد قرن الله تعالى بين الصيام والدعاء، فأورد في القرآن الكريم آية الدعاء وسط آيات الصوم. ومنذ أن توجه أبو البشرية آدم عليه السلام بتضرعه لربه: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لم ينقطع الدعاء في يوم من الأيام من كافة الأمم وأهل الأديان جميعها، لأن الدعاء صلة إنسانية بين المخلوق ومولاه، يتوجه إليه في أوقات الملمات، ويرفع إليه الحاجات، ولهذا يصف الله تعالى حال الإنسان فيقول: (وَإِذَا مَسَّ الْإنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا). وقال: (لا يَسْأَمُ الْإنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) وعبرت الآية بـ«الإنسان» إيماء إلى أن قيمة الدعاء جُبلت عليها الإنسانية جمعاء.
إن الإنسان بفطرته يُدرك خالقه ومن وَهب له الحياة، فحين يقع في الحيرة والاضطراب، ويحتاج إلى السكينة والطمأنينة، ويرى حياته مهددة بالخطر، يلتجئ إلى ربه والمنعم عليه ليكتسب الأمل ويدفع القنوط، وليُقر من خلجات نفسه بأن أسمى شيء في هذا الكون هو الاتصال بالله تعالى، خالق الإنسان وجميع هذه الأكوان، فحين يجأر الخلق بالابتهال والتضرع لله تعالى فهم في مأمن، لأن مَنْ وفقهم للدعاء قد أَلهمهم الخير الكثير، فقد عرفوا مولاهم وأنابوا إليه، وأيقنوا أنهم أمام السميع العليم الشافي المعافي، الذي إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
ولهذا الدعاء وجه آخر، فحين يغزو اليأس والقنوط قلوبا، فإن الداعين لله يعرفون أن لهم ربا يتوجهون إليه، ويحسنون الظن به يجيب دعواتهم، فلا ييأسون ولا يقنطون ولا هم يحزنون، فكلهم رجاء وأمل، إلى أن يُعطُو سؤلهم.
فالدعاء كمال إنساني من الكمالات التي يرتقي إليها الإنسان في أوقات يسيطر فيها العجز والضعف والفقر، فإذا كان نيتشه يرى في نظريته أنه (لمن المخجل حقا أن ندعو) فإن العالم الفرنسي الطبيب «أليكسس كارليل» الحاصل على جائزة نوبل في الطب يفند هذه النظرية في كتابه «الدعاء» حين يقول: (إذا كان الدعاء مخجلاً، فكذلك شرب الماء والتنفس يدعوان إلى الخجل مثل ممارسة الدعاء، إن الإنسان بحاجة ماسة لوجود الله أكثر من حاجته لاستنشاق الأكسيجين للمحافظة على جذوة الحياة) ويقرر أن: (الدعاء ضرورة لا يستغنى عنها لرقي الإنسان وتساميه نحو الأمثل والأفضل). وبما أن العالم «أليكسس كارليل» كان طبيبا فقد بيّن في هذا الكتاب كيف يساعد الدعاء المرضى على التشافي والتغلب على الأسقام، ويقرر أن الدعاء يساعد على الحياة.
لا بد أن هناك حالات يشعر فيها الإنسان بأنه يحتاج إلى مزيد من القوة لإحساسه بضعفه البشري، وعدم قدرته على مواجهة الأزمات المحيطة به، في تلك الحالة لا تنقطع آمال الداعين فيأتيهم المدد من السماء، ويكفي من محاسن الدعاء أنه يفتح أبواب التفاؤل على مصراعيها، ويسد أبواب اليأس والقنوط في وجه المدلهمات. وكان الدعاء دائما من القواسم المشتركة بين الديانات السماوية، ينقل ابن بطوطة في رحلته صورة ليوم الدعاء الذي أقيم في الشام أيام الطاعون الأعظم، وشارك فيه جميع أهل الأديان فيقول: (وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا صغارا وكبارا، وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان وجميعهم باكون متضرعون متوسلون إلى الله بكتبه وأنبيائه) ومع بذل الأسباب والأخذ بزمام العلم في مواجهة هذه الجائحة النازلة بالإنسانية في هذه الأيام، فإن دعوة «اللجنة العليا للأخوة الإنسانية» المؤمنين في العالم للدعاء من أجل إنقاذ العالم مما نزل به من البلاء، تحيي الأمل في النفوس رجاء أن يرفع الله عنا ما نزل بالبشرية من وباء، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
*المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف