ألم يسمع هؤلاء المتزاحمون شيئاً عن وباء يحصد بلا رحمة؟ من المؤكد أنهم يعرفون، ولو قليلاً، فمن الذي بوسعه أن يتفادى سيل الأخبار الذي يتدفق من الشاشات والميكروفونات وصفحات الجرائد وأفواه الذين يسمعون ويشاهدون ويقرأون، ويثرثرون ليل نهار عن أولئك الذين يتساقطون في طول الأرض وعرضها، لكن إن كانوا على خبر فلمَ هذه السيل البشري الذي ينهمر في الشوارع والساحات؟ ولماذا هذه الأكوام الآدمية التي تتحلق حول عربات الفاكهة والخضروات في السوق، وحول البضائع في المتاجر؟ ولماذا هذا التدافع في محطات المترو والقطارات الذاهبة إلى القرى والمدن والآيبة منها؟ أجهل هذا أم جسارة؟ هل هو استهتار أم اضطرار؟
يمكن لمن يسأل أن يستدعي بيت شعر يحفظه عن ظهر قلب ليصلح إجابة هنا، فيردده مرة أخرى: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»، وبوسعه أن يصف الذين قد سمعوا وأطاعوا فاعتزلوا الناس، واتخذوا من دورهم سجناً اختيارياً، بأنهم هم العقلاء الحصفاء، فمن هذا الذي يقف في وجه وحش كاسر لا يراه، لكنه يرى ضحاياه وهم يتساقطون، ويرحلون دون وداع؟ وعلى النقيض سيصف أولئك الذين لا يبالون بأنهم جهلاء متهورون.
لكن هذا الذي أطلق الوصف على الطرفين، لم يكلف نفسه عناء سؤال الطرف الذي هجاه عما إذا كان بالفعل جاهلاً أو مستهتراً أو ذاهباً في إيذاء نفسه وغيره دون اعتناء؟ فمن ينظر طويلاً في وجوه هؤلاء، أو يراقب أيديهم وهي تتحرك في خفة شديدة لالتقاط الرزق من بين أنياب حياة قاسية، أو ينخطف بصره حين تلمع عيونهم التي تفيض ألقاً وقلقاً في عينيه، سيبعد عنهم الجهل، حتى وإن كان حظهم من التعليم قليلاً، فمنذ متى كان حشو الرأس بمعلومات يعطي صاحبه الحكمة؟
ليسوا جهلاء إذن، وربما لو تجاسر من يسأل واقترب منهم وحدثهم عن الوباء، سيجدهم يعرفون عنه الكثير، ويتابعون خطاه السوداء في كل مكان، وسيفاجئونه بالسؤال: هل هناك فرق بين الموت جوعاً أو الموت مرضاً بوباء كاسح؟ قد يتعلثم في الإجابة، فيجدهم يحدثونه بما يبين أنهم قد حسبوها جيداً: احتمال الموت جوعاً إن توقفنا نحن من نكسب قوتنا يوماً بيوم عن الشغل أكبر بكثير من احتمال موتنا بالوباء.
وقتها سيجد السائل نفسه يقول لغيره، إن وجده ممعناً في لوم المتزاحمين: من العبث أن نطلب من الناس أن يموتوا جوعاً حتى يتجنبوا الموت بوباء كورونا، والرشد في هذه الحالة هو أن نقول: يستمر من ليس ببيته شيء في النزول إلى عمله، أياً كان، لكن عليه أن يحرص كل الحرص، وهنا يكون من العقل أن نعلمه جيداً طرق الوقاية، لا أن نلومه، ونقرعه، ونحمله المسؤولية وحده.
وقد يجد من ينظر إلى ما يراه من زاوية لا تخطر له على بال، فيسأله: ـ ألم تمدك جسارة هؤلاء بشيء من الاطمئنان؟ سيعتبر هذا السؤال فيه سخف شديد، ولا يراعي أي مصلحة لهؤلاء المساكين، بل يتعامل معهم كفئران تجارب بطريقة أخرى، لكن سيجد الرد حاضراً لديه: ألم يبلغنا الأطباء بأن هناك من يمرض وهماً، وأن الخوف الشديد يضعف جهاز المناعة، الذي هو حائط الصد الأول في هذه المعركة، طالماً أن العلماء لم يصلوا بعد إلى علاج؟
سيجيب على الفور: نعم، وهنا سيقول له بكل ثقة: إذن إصرار هؤلاء على استمرار الحياة، ومنعهم الخوف من التسلل إلى نفوسهم، إما جهلاً أو لامبالاة أو جسارة، يجعلهم أقوياء في مواجهة الوباء، ولو إلى حين، سيرفض هذا المنطق كلياً، ويقول: نحن نبحث عن معنى في ركام من العبث، فلو أن الحياة عادلة لوجد هؤلاء ما يبقيهم مكتفين في بيوتهم ولو لأسابيع، حتى يفوتوا الفرصة على الوباء في اصطياد ضحايا جدد بسهولة.