آخر معركة حربية بين الولايات المتحدة والصين جرت في عام 1952، وكانت كوريا مسرحاً لها. جرى ذلك خلال الحرب الكورية (بين الشمال والجنوب) التي استمرت من عام 1950 وحتى عام 1953.
دفعت الصين ثمناً بشرياً غالياً جداً في المعركة. إذ بلغ عدد ضحاياها حوالي 400 ألف جندي. وكان من بين هؤلاء ابن الرئيس الصيني ماوتسي تونغ. ولما بلغه نبأ مقتل ابنه قال يومها: «وهل يمكن أن تنشب حرب من دون سقوط ضحايا؟».
كذلك دفعت الولايات المتحدة ثمناً سياسياً باهظاً جداً.. إذ فشلت، رغم آلتها العسكرية المتطورة، في دحر القوات الصينية واسترجاع الجبل الصغير «شنغاليفن (أو «التلّ المثلث» كما كان يسميه الأميركيون) الذي كان يحتل موقعاً استراتيجياً بالنسبة للطرفين.
وبعد ذلك جرت المفاوضات السياسية بين الأطراف المتقاتلة. لكن الحرب لم تضع أوزارها إلا بعد مفاوضات استمرت عاماً ونصف العام، لكنها توقفت حيث بدأت، ومن حيث انطلقت عند خط العرض 38. كانت الصين (ماوتسي تونغ) تتوقع أن يقدّم الاتحاد السوفييتي (جوزف ستالين) الدعم العسكري لها لاسترجاع تايوان. في ذلك الوقت لم تكن الصين مصنّعة للأسلحة، بل كانت مستورداً لها. وكان الاتحاد السوفييتي المصدر الأساس إن لم يكن المصدر الوحيد لوارداتها من الأسلحة. لكن كانت للرئيس السوفييتي حسابات أخرى. كان يريد الصين قوية في وجه أميركا، ولم يكن يريد أن يمكّنها من الاستقواء عليه، كما حدث فيما بعد، حيث أدى إلى الصراع بينهما ثم إلى القطيعة. لذا كان ستالين يساعد الصين عسكرياً بقدر معروف، وفي أطار دورها المحدد في الحرب الكورية لمواجهة الولايات المتحدة. وهو درس آخر تعلمته الصين، وترجمته في تطوير صناعتها العسكرية حتى بلغت اليوم درجة الاكتفاء الذاتي، كمّاً ونوعاً. وبالتالي أصبحت قراراتها السياسية في الحرب وفي السلم تعتمد على هذا الاكتفاء.
خرجت الصين من تلك التجربة العسكرية السياسية بدرس لا تزال تعتمده في علاقاتها مع الولايات المتحدة حتى اليوم؛ وهو أنه لا يمكن إجراء مفاوضات متكافئة مع عدو أو مع خصم من دون قتال أو حتى بالاعتماد على حليف له مصالحه الاستراتيجية الخاصة. وبموجب هذه النظرية تحولت الصين إلى نموذج للمفاوض أثناء القتال. والقتال لا يكون بالضرورة ودائماً في ساحة الحرب. لكنه قد يكون في ساحة التنافس الاقتصادي أيضاً، ومع الولايات المتحدة فإنه يجري الآن في الساحتين معاً. الساحة العسكرية في بحر الصين الجنوبي الذي أقامت فيه الصين قواعد عسكرية بحرية وجوية متقدمة فوق جزر اصطناعية مستحدثة، وفي الساحة الاقتصادية المفتوحة الآن على مصراعيها مع الولايات المتحدة.
في الأساس لم تدخل بكين الحرب في عام 1950 ضد الولايات المتحدة للدفاع عن كوريا الشمالية. كانت لها أهداف أخرى، وفي مقدمتها فرض ذاتها على طاولة المفاوضات الدولية كمتحدث وحيد باسم الصين.
وبعد عامين من الحرب أدركت الولايات المتحدة أن الثمن المعنوي الذي تدفعه من الأرواح والعتاد، وأن الثمن السياسي الذي تدفعه بتشجيع بكين وموسكو على التفاهم والتعاون، أغلى بكثير من المكاسب السياسية التي يمكن أن تحققها بتوحيد الكوريتين الشمالية والجنوبية.
وهكذا فشل مشروع التوحيد وذهبت كل التضحيات البشرية والمادية هباءً منثوراً.
واليوم تتجدد المسرحية، ولكن بموجب سيناريو مختلف. فالصين هي التي تبادر لإخراج تايوان من الحضن الأميركي لإعادة ضمها إلى الدولة الأم. فهل الولايات المتحدة التي عجزت عن تحرير «التل المثلث» من القوات الصينية في عام 1952، مستعدةً الآن للتضحية بآلاف الجنود من أجل إبقاء تايوان خارج قبضة المطامح الوطنية الصينية؟
بعد الحرب الكورية أدركت الولايات المتحدة، وبعد أن دفعت الثمن غالياً، عقم التضحيات من أجل توحيد الكوريتين. فهل هذا الإدراك يشمل اليوم أيضاً قضية التعامل مع تطلعات الصين لاسترجاع تايوان؟
صحيح أن الرئيس الصيني الحالي ليس «ماوتسي تونغ». لكن الصحيح أيضاً ان الرئيس الأميركي ترامب ليس ترومان.
لقد مرت مياه كثيرة من تحت جسر العلاقات الأميركية الصينية. غير أن المعادلات التي تتحكم في العلاقات بينهما لا تزال كما كانت.. قائمة على اللاثقة!