ما الذي يفرق بيننا وبين ابن سينا وتوماس أديسون وويليام هارفي؟ هل تساءلت يوماً: كيف تمكن العلماء من الوصول إلى تلك المنزلة العلمية؟ ذكر د. أليكسيس كاريل في كتابه «الإنسان المجهول» The Unknown Man كان الإنسان في الأزمة الغابرة، متعدد المعارف والمهارات وذا كفاءة عالية، لأنهم يتمتعون بالتوازن العقلي والاستقرار النفسي. وكانت لديهم ثقة بالنفس لمعرفتهم لذواتهم وقدراتهم، ولذا كانوا قادرين على التفكير بمستويات متباينة. كانت آفاقهم واسعة، عانقت فروعاً كثيرة من المعرفة. على سبيل المثال، العالم ابن سينا كان معتمداً في معرفته على القراءات في مختلف العلوم، مما جعلت منه فيلسوفاً وشاعراً وعالماً في الطب، والفيزياء والفلك، وعالماً بفلسفة العلوم، كعلم النفس، والموسيقا والرياضيات. اتخذ الطب مهنة له وهو ابن الثمانية عشر. ولكن مع التطور المتسارع على كافة الصعد وابتكار وسائل تكنولوجيا متعددة، تراجعت قدرة الفرد على التفكير بمستويات متعددة. يوضح Alexis بأن المناهج التعليمية لم تراع القدرات والمواهب الفطرية. لم تضف المناهج التعليمية الكثير لتوماس أديسون إلا فصله من النظام التعليمي، فقد كان حاضراً جسداً، غائبا ذهنياً، يفكر خارج دائرة المألوف، وبسبب شروده ذهنياً، اعتُقد بأن مستواه التعليمي متدنٍ. فتبنت أمه تعليمه، يقول توماس أديسون: «أمي التي صنعتني، لأنها كانت تحترمني وتثق بي، أشعرتني بأني أهم شخص في الوجود...فأصبح وجودي ضرورياً من أجلها». بدأت رحلة الاختراعات التي وصلت إلى 1093 براءة اختراع! فاختراع المصباح الكهربائي يعود إلى مرض أمه الحرج ليلاً، فلم يُجر لها عملية جراحية فورية - كادت تموت من آلامها- بل تم الانتظار حتى شروق الشمس بسبب ضعف الإضاءة. فقام بإجراء أكثر من 300 إلى 1000 تجربة غير ناجحة لاختراع المصباح الكهربائي. أما هاري كاهني Harry Kahn ذو المهارات المتعددة، فقد كان عقله أشبه بأديسون في حالة تجول دائم، حتى أشار عليه أستاذه ذات يوم، فلم يجب سؤاله، فتلقى عقوبة بدنية أجبرت نصف عقله أن يكون واعياً، والنصف الآخر مستغرقاً في خيالاته. وأثناء حالة الشرود كان مستمتعاً بكتابة الجمل بالمقلوب وقراءتها. وحينما يسأله أستاذه يجيب على الفور، وبهذا دُرب على فصل ذهنه بفكرتين متباينتين. وذات يوم، استطاع استعراض قدراته الذهنية أمام الجمهور بمعالجة عدة أشياء في آنٍ واحد، ومنها قراءة الجريدة وكتابة عناوينها بالمقلوب، معالجة معادلة حسابية معقدة، والقدرة على تلقي أسئلة الجمهور حول أي موضوع. وكان يجيب عن أسئلتهم في زمن قياسي ويتابع عرض قدراته! لماذا أصبحنا غير قادرين على التعامل مع عدة عوامل متناقضة؟ ولماذا افتقدنا التوازن النفسي والتعدد المعرفي؟ هل ساهمت التكنولوجيا في تخدير أذهاننا؟
يفسر «كاهني» في كتابه The Multiple Mentality أسباب الضعف الذهني الذي أصاب الأجيال الناشئة بالإهمال في التربية وترهيب العقل وسيطرة وسائل التكنولوجيا بأنواعها، والتي تساهم في التعرض إلى الإجهاد الجسدي والنفسي. ويتساءل: ماذا حدث لأدمغة أبنائنا؟ هل اقتنعت بأنها كائنات ضعيفة لا تنتج إلا بمساعدة تقنية؟ وفي عصرنا هذا، نرى أن الآلة الحاسبة حلّت محل العقل البشري في إجراء معادلات حسابية، وGPS الموكل بإرشادنا في كافة الاتجاهات. أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية تعرض خدماتها لك في زمن قياسي، وكأنها تقول لك:«شبيك لبيك عبدك بين يدك». إن الفارق الحقيقي بيننا وبينهم، هو عصر التكنولوجيا المسيطر. وفي ظل سياسة العزل والتباعد الاجتماعي التي فُرضت على العالم: هل يستطيع فيروس كورونا أن يعيد لنا الاستقرار النفسي والتوازن العقلي؟

*أكاديمية وكاتبة وعازفة.