حينما أطاح الثوار الليبيون بزعيم دولتهم السابق «معمر القذافي» في بدايات العقد الماضي، سلموا الحكم مؤقتاً للمجلس الوطني الانتقالي، فيما اتجهت عيونهم جميعاً نحو صناديق الاقتراع، لاختيار من يمثلهم، من خلال انتخابات حرة نزيهة. كان «الهوس بالديمقراطية» يسيطر على عقول الجميع وهم في غمرة احتفالاتهم بإسقاط الديكتاتور الذي جثم على صدر ليبيا لأكثر من أربعة عقود.
جميع الليبيين، بلا استثناء، كانوا يحلمون بدولة ديمقراطية مزدهرة على النسق الاسكندنافي! كانوا يظنون أنهم بمجرد انتهاء الفترة الانتقالية، التي حددوها بثمانية أشهر، سيتحولون مباشرة إلى ربيع الديمقراطية، ويعيشون باقي حياتهم في نعيم مخرجاتها.
كان الليبيون يتحدثون عن الديمقراطية وكأنهم خبراء بتفاصيلها وعوالمها الداخلية، حتى أنه كان ليخيّل لمن يسمع تصريحات الليبيين آنذاك (مثقفيهم وعوامهم)، أن الديمقراطية الليبية كانت موجودة قبل معمر القذافي بمئات السنين، ثم اختطفها الزعيم الديكتاتور، وسجنها لمدة أربعين سنة فقط، وها هي اليوم تخرج إلى الشمس، صبية جميلة، كما كانت قبل 1969!
لم يخرج في ذلك الوقت أي من الحكماء الليبيين، ليقول إن علينا أولاً أن نعرّف الديمقراطية، ونرسم محدداتها، ونبني هياكلها، ونستزرع أساساتها! لم يخبر أحداً الليبيين أن الديمقراطية ليست قراراً، وإنما هي نتيجة! لم يتفضل أحد المنظرين الكبار في ليبيا بنصح بني جلدته، بأن عليهم أولاً أن يعملوا على بناء الديمقراطية من الصفر، ثم ينشغلوا سنوات في تأثيثها وتهيئتها للسكن! لم يقل أحداً لليبيين إن هذه العملية تستغرق عشر سنوات أو أكثر! صمت العارفون بالتفاصيل عن قول الحقيقة، فاندفع الجميع بعد سقوط الديكتاتور إلى الديمقراطية، فسقطوا في الاختبار الأول، وتحولت ليبيا منذ ذلك الحين إلى ساحة من التناقضات والجمل غير المفهومة.
ليبيا كانت تحتاج بعد معمر القذافي لزعيم قوي عادل، يضبط الأمن، ويحمي هياكل الدولة، ويحافظ على ثروات الوطن، ولا يسمح بأي نوع من التدخلات الخارجية. كانت الجماهيرية، التي أصبحت جمهورية في ما بعد وتغير علمها، تحتاج لمن يعبر بها بحر الثورة الهائج. كانت تحتاج لمن يأخذها للشاطئ الآخر بأقل عدد من الخسائر، ثم يعمل بعد ذلك مع حكومته على تعزيز مبادئ الفردانية، وحرية التعبير وسيادة القانون وحقوق الإنسان والتعددية السياسية. كانت ليبيا، بمختصر القول، تحتاج لمن يأخذها من ديكتاتورية معمر القذافي، ثم يشتغل على «دمقرطتها» لسنوات عدة، قبل أن يسلمها إلى «المجتمع المدني» القادر على إدارتها من خلال عملية تداول نزيهة للسلطة.
لو وعى الليبيون منذ وقت مبكر الخطأ الجسيم الذي وقع فيه البطل السوداني التاريخي عبدالرحمن سوار الذهب، رحمه الله، بتسليمه السلطة مباشرة لحكومة مدنية منتخبة في السودان، بعد عام واحد من الإطاحة بجعفر نميري قبل أن تتشكل هناك ديمقراطية حقيقية، لأدركوا أن «المشير خليفة حفتر» هو القوي العادل الذي ما كان سيسمح للأتراك باستغلال «مخرجات مرحلة الفوضى» المتمثلة في «حكومة الوفاق»، وسرقة ليبيا نهاراً جهاراً.