ها هو شهر رمضان يلملم أوراقه الأخيرة، معلناً أنه كان مع كورونا مختلفاً جداً، هكذا شعرنا نحن الذين لم نعهده أبداً على هذا النحو، حتى السجناء الذين يربون الأمل على مهل خلف الأسوار العالية، يمنحهم السجانون فسحة في أيام الصيام، لا يمكنهم أن يجدوها في غيرها، وحتى المرضى المحجوزون في غرف يريدون الفرار منها، ويأتيهم طعامهم حتى أسِّرتهم، بوسعهم أن يمدوا أقدامهم خارجها ليجلسوا جماعة حول إفطار أو سحور، بل الواقفون على حافة المذبحة، المنخرطون في معركة حامية ممتدة، يرتبون لموعد كسر صيامهم الشاق بطريقة أخرى، ويملأهم اطمئنان بأن عدوهم سيمهلهم حتى يفرغوا من شرابهم وطعامهم، في هدنة غير معلنة.
أما نحن فأمام عدو أعمى، لا يعرف صياماً ولا قياماً، ولا تشغله أعيادنا وأفراحنا، وحتى مآتمنا حرمنا من أن نجلب إليها من يشاطرنا الحزن، ويقضم منه بالمواساة والحدب، قطعة قطعة حتى يستقر في قيعان النسيان.
بمناسبة القضم هذا، أصبحنا نفكر خلال ساعات الصيام في طعام وظيفي، ليس ذلك الذي كنا نشتهيه في صيام السنوات التي ولت، ويراه كثيرون منا مكافأة لهم على صبر ساعات طويلة، دون أن يدخل شيء إلى أجوافهم اليابسة، فكل ما يشغلهم الآن هو ذلك الذي يقوي مناعتهم، بعد أن قال لهم المختصون:
ـ لا سبيل أمامكم سوى أن تجهزوا أجسادكم للمقاومة.
ربما كثيرون منا يتلكأون في تناول طعامهم، فليس بعده أي رفاه سوى متابعة المسلسلات المملة التي يجبرنا المكوث في البيوت على أن نجعلها جزءاً أصيلاً من حياة عابرة أكثر من أي وقت مضى، كنا نتابعها في ليالي رمضان عبر سنوات، وبعضها كان يجذبنا، لكن الآن تعدى الأمر التسلية والتسرية إلى البحث عن أمان، صارت جزءاً من تقضية الوقت، وقتل الخوف، بالتغافل والنسيان والتلهي.
نعم يذهب الخوف، حين نرى أبطالها وشخصياتها الثانوية يتحركون في الشوارع، يتصافحون ويحضن بعضهم بعضاً، ويجتمعون حول الطعام والشراب، ويجلسون على المقاهي التي تغص بالرواد، ويدخلون مختلف الأسواق، ويمكثون وقتاً في المساومة والشراء.
وحال غضبنا من الممثلين والمخرجين والمصورين، لأننا عرفنا أن بعض المشاهد قد تم تصويرها بعد الحظر والحجر والعزلة، وإذا أردنا كذلك أن نشعر بأمان أكثر، فبوسعنا أن نبحث عن مسلسل قديم، لنرى عالم ما قبل الوباء، كيف كان الناس يتحركون ويتقابلون، يتصافحون ويتماحكون ويتشاجرون، دون خوف من عدو خفي، يأتي أياً منهم من حيث لا يحتسب.
الشيء الإيجابي الوحيد الذي يمكن للوباء أن يعطيه لشهر رمضان، هو تحول البيوت إلى أماكن للاعتكاف، أو صوامع للانقطاع لذكر الله، يستطيع أي شخص أن يجعل في بيته زاوية صغيرة، فينعزل في غرفته وقتاً أطول، يقضيه في التأمل ومعانقة الصبر والتوكل. نعم هذه الطريق يجب أن نسلكه اختياراً لا جبراً، لكن بوسع أي فرد أن يصنع بدائل حتى وهو في محبسه، طالما أن روحه طليقة، ترفض الاستسلام، وهذه واحدة من غايات الصيام.
حين كان رمضان يقترب، كانت الآمال تتسع في أنه سيأتي بينما تكون البلاد قد استعادت الأمان والسكينة، لكن تتابعت الأيام سريعاً، ووجد الناس أنفسهم في أول يوم صيام، بينما الشاشات تعرض جداولها الملونة التي تعلن عن تزايد أرقام المصابين في كل مكان، فأدركوا وقتها أنهم أمام صوم لا مثيل له في حياتهم، أضيفت إلى الكف عن الشهوات فيه، الامتناع عن شهوة جديدة، إنها شهوة الاجتماع أو مخالطة الناس والائتناس بهم، التي لم يحسب كثيرون أنها جامحة إلى هذا الحد، وأن الاستغناء عنها جهاد.
إن كل مسلم يتطلع من الآن إلى رمضان القادم، ويجزم مع نفسه أنه سيأتي بينما يكون الوباء قد حمل عصاه ورحل، ووقتها سيستعيد بهجته الضائعة، ويتفنن في إقامة شهر صيام لا ينسى، حتى يمكن محو آثار العدوان الذي يقع عليه الآن تماماً.