عرّف معظم مفكري القرن التاسع عشر، التقدم بأنه انتقال من الدين إلى العلم، ومن الكتاب المغلق (المقدس) إلى الكتاب المفتوح (الطبيعة). لقد ساهم الوحي في تقدم الوعي الإنساني في الماضي، كما يساهم العلم في تقدم البشرية في الحاضر والمستقبل. لذلك لا يمكن العودة إلى الوراء واستعمال نفس الوسائل القديمة. الكتاب الخاضع للتأويلات استعملته القوى الاجتماعية والسياسية المتصارعة، كلٌ لمصلحته وبانتقاء النصوص التي يريد، وترك النصوص التي لا يريد. أما العلم فله منهج واحد هو المنهج التجريبي: الافتراض ثم التحقق من صدقه بالتجربة ليصبح قانوناً علمياً تتحقق به المنافع للبشرية. كان الدين وسيلة لتقدم الوعي البشري، لكن عقل الإنسان اكتمل وأصبحت البشرية موكولة إلى نفسها في الفهم والتغيير. لذا فكل دعوة من قبيل «الحاكمية لله» و«تطبيق الشريعة» و«الإسلام هو الحل» و«الإسلام هو البديل».. هي ردة تاريخية وعودة إلى الوراء.
ولذلك فإن شَرْطي التقدم هما العلم والعلمانية. العلم هو النظرة إلى الطبيعة والقدرة على كشف قوانينها بعيداً عن الخرافة والأسطورة والوهم.. وأعداؤه الجهل والخوف النابعان من التقليد. شرط التقدم العلم والحكمة والحرية. العلم والحكمة ضد الجهل، والحرية ضد الخوف والظلم. لذلك يؤدي التقدم إلى الثورة على القيود الفكرية القديمة وإلى بناء مجتمع حر بلا قيود. والعلمانية هي فصل الدين عن الدولة. الدين علاقة الإنسان بالله، في حين أن الدولة علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبالمجتمع. الأولى علاقة ذاتية شخصية، والثانية علاقة موضوعية عامة. الأولى لا تخضع للقانون المدني، في حين أن الثانية تخضع للقانون المدني. الأولى جزاؤها وعقابها في السماء (في الحياة الآخرة). والثانية تخضع لطائلة القانون في الدنيا.
والآن نرى كيف أن مصطلح «العلمانية» أصبح مشبوهاً ويعني لدى البعض معاداة الدين وإلغاء الشريعة وتقليد الغرب! إن فصل الدين عن السياسة سنّة طبيعية، والعلمانية تمثل تطوراً طبيعياً طبقاً لسنة طبيعية. لذلك نشأ النزاع بين اللاهوتيين والعلماء حول نشأة الأرض ونشأة الإنسان. ووضع داروين نظرية النشوء والارتقاء لتفسير أصل الحياة ونشأة الإنسان ككائن حي. ومهما قام العلماء البريطانيون بتفنيد هذه النظرية، فإنها مازالت قائمة، وقد استأنفها باستور وأعاد صياغتها هيجل ليلهي الشعب الألماني عن أزمته الاقتصادية.
التطور هو أساس العلم الطبيعي واكتشاف قوانين الحياة. والشك هو أساس العلم الإنساني والتخلي عن القديم وبداية الجديد. ترى الناس التطور وتخشى الجهر به من على المنابر. لكن كيف يمكن الجمع بين القديم والجديد، وفي نفس الوقت يكون شرط التقدم هو التحرر من القديم وتبني الجديد؟ وكيف يمكن الجمع بين العلمانية التي تقطع مع القديم وتتبنى الجديد، وفي نفس الوقت المحافظة على الدين والتراث والقيم الروحية؟ هناك باستمرار لدى المفكر العربي المعاصر هذان المنزعان: منزع نحو القديم بدعوى الأصالة، وفي نفس الوقت الرغبة في التحرر منه بدعوى الحداثة. هناك منزع نحو الجديد بدعوى التحرر وفي نفس الوقت عدم تبني النموذج الغربي بدعوى نبذ التبعية. وهو اشتباه في الوجدان العربي المعاصر لا حل له إلا بالدخول في عملية التحرر والحداثة والحكم على التجربة بَعدياً وليس قَبْلياً.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة