بدأت بعض الأنشطة تعود إلى الحياة في أوروبا، لكن رفع القيود هنا في بريطانيا يعد مصدراً للجدل الشديد والارتباك وتوتر الأعصاب. وربما يتدفق البريطانيون على الساحات العامة وينطلقون إلى الطرق من جديد، لكن 46% منهم يقولون إن التعديلات المحدودة في الآونة الأخيرة على قواعد الإغلاق مبالغ فيها. وهناك شخص واحد من كل عشرة أشخاص يقول إن رفع القيود ليس كافياً. وترفض اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية اتباع خطط إنجلترا في إعادة الفتح.
ويرى بعض المحافظين أن تردد الجمهور غير متناسب مع الخطر. وبالنسبة لرئيس الوزراء بوريس جونسون، سواء أكان متعاطفاً مع وجهة النظر هذه أم لا، فهو أكثر ميلاً للإنصات إلى الجمهور. وقد تلكأت بريطانيا، مثل الولايات المتحدة، في اعتبار فيروس كورونا يمثل طوارئ قومية، وكان هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل الفيروس ينتشر بسرعة للغاية ويكبد البلاد مثل هذه التكلفة البشرية الباهظة. وخاف مستشارو الحكومة في بداية الأمر من ألا يقبل المواطنون القيود، ولذا تطلعوا إلى تفادي الإغلاق. والآن يخشون ألا تستطيع بريطانيا الخروج منه.
والخوف يمثل أحد التفسيرات. فقد كان عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم نتيجة «كوفيد - 19» في بريطانيا أكثر من أي دولة أخرى فيما عدا الولايات المتحدة. وقصص الأسر الثكلى أصبحت جزءاً من الأنباء المسائية التي يشاهدها الملايين يومياً. لكن هذا التفسير ليس كافياً؛ لأن بريطانيا ليست البلد الوحيد الذي عانى كثيراً أو ترصد وسائل إعلامه كل التفاصيل.
وجادل بعض أعضاء حزب المحافظين الحاكم بزعامة جونسون بأن التردد في ترك الإغلاق يرجع في جانب كبير منه إلى ما تتخذه الحكومة من إجراءات في صفقة الإنقاذ التي تتضمن دفع معظم أجور العاملين مقابل البقاء في منازلهم. والتمويل سخي، لكنه ليس مبذراً ولن يستمر إلى الأبد. والدول الأخرى التي تخرج من الإغلاق لديها شبكات أمان اجتماعي جيدة أيضاً أو تطبق إجراءات جديدة. وعلى سبيل المثال، تدشن إسبانيا برنامجاً لدخل أساسي شهري للأكثر احتياجاً.
لكن ربما كانت إصابة جونسون بكورونا حدثاً حاسماً في قبول الجمهور لإجراءات الإغلاق، بحسب قول جيمس جونسون المستشار السياسي والقائم باستطلاعات الرأي. وقد وصف الصحفي ماتيو دانكونا مزاج الجمهور حين كان رئيس الوزراء في المستشفى، قائلاً إنه كان «موجة تعاطف عميقة مصحوبة بقلق عميق». وحين نُقل رئيس الوزراء إلى الرعاية المركزة، لم يذكر هذا البريطانيين فحسب بأن «كوفيد - 19» قد يكون قاتلاً، بل عزز بقوة رسالة جونسون المحورية التي مفادها أن البريطانيين ببقائهم في المنازل يحمون بقوة جهاز الصحة القومي المرهَق بالأعباء وينقذون حياتهم. وكان لرسالة رئيس الوزراء وخبرته تأثير واضح وحد الصفوف. ولا يوجد صراع فيما يبدو في عقول الجمهور البريطاني حين يتعلق الأمر بالمقارنة بين تجنب الركود واحتواء انتشار الفيروس.
وبعد أربع سنوات من الانقسام حول «بريكسيت»، أصبحت البلاد تشهد انقسامات متوقعة بين الأجيال، فالأشخاص الأكبر سناً يميلون لتأييد «بريكسيت»، بينما يريد الأصغر سناً البقاء في الاتحاد الأوروبي. لكن هذا الانقسام لم يظهر أثناء الجائحة. فقد انتشر التأييد للإغلاق في كل الفئات العمرية رغم أن احتمالات وفاة المتقاعدين من «كوفيد - 19» أكثر بنسبة 34 مرة عن البريطانيين في سن العمل. والواقع أن عدداً أكبر في بريطانيا- أكثر مما في ألمانيا واليابان والسويد أو الولايات المتحدة- قالوا إن الأولوية الأولى بعد الجائحة يجب تكون رعاية الفئات الأضعف.
ويجب ألا نندهش أن تمثل هذه القيم الاجتماعية المحرك الأساسي للرأي العام في بريطانيا. فقد فاز مؤيدو «بريكسيت» في حملة استفتاء 2016 بناءً على زعم زائف مفاده أن ترك الاتحاد الأوروبي سيوفر أموالاً يمكن استثمارها في خدمات الصحة القومية. وبالنسبة لكثيرين من البريطانيين، فالإغلاق الحالي يمثل أحد أعمال التضامن مع جهاز الصحة، بينما الرفع المبكر للقيود يُنظر إليه باعتباره خطراً على عمال الصحة ونظام الرعاية الهش.
وهناك تكلفة شخصية هائلة من إغلاق المجتمع، مثل عدم معالجة الأمراض الخطيرة، وتوقف التعليم والأمراض النفسية. والارتباط الوثيق بين الإغلاق الاقتصادي وحماية جهاز الصحة القومي وحماية الأرواح، يجعل التحدي الذي يواجه جونسون الآن هو التراجع عن هذا الطريق المسدود. وربما إذا استمرت معدلات الإصابة والوفيات في التراجع، وإذا اعتزمت الحكومة تعزيز الاختبارات، وأثبت تطبيق تعقب المخالطة نجاحه.. ربما تزيد ثقة الناس في الانتقال والتسوق والسفر. والاعتماد على برنامج الإجازات البريطانية السخي، إلى جانب التصاعد المتوقع في البطالة والإفلاس، سيجبر البريطانيين أيضاً على إلقاء نظرة مدققة على تكلفة الإغلاق طويل الأمد.
والأرجح أن جونسون سيحتاج إلى رسائل أفضل بكثير ورؤية أوضح للمستقبل من تلك التي قدمتها حكومته منذ أن أدخلت البلاد في الإغلاق. وسيتعين على رئيس الوزراء أن يجد تصوراً محافظاً جديداً يؤكد الصلة بين النمو الاقتصادي وتقديم خدمات عامة من الدرجة الأولى. لكن مازال أمامه أزمة صحية يتعين عليه إدارتها. ودون اختبار ملائم وتعقب مخالطة، يرجح أن يستنتج البريطانيون أنه من السابق لأوانه تخفيف الإغلاق.

*محللة سياسية متخصصة في الشؤون البريطانية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»