أثارت التهنئة التي تقدم بها زعيم «حزب النهضة» ورئيس البرلمان في تونس لرئيس ما يُسمى بحكومة الوفاق الوطني بعد سيطرتها على قاعدة «الوطية» في ليبيا، عاصفة من الانتقادات داخل تونس وخارجها، وأُركز في هذه المقالة على انتقادات الداخل، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تثير فيها تصرفات الغنوشي وحزبه استياءً واسعاً في الأوساط التونسية وكذلك لدى كل من يدرك حقيقة المشروع الإرهابي الذي ينسب نفسه زوراً للإسلام. فقد سبق أن أدت تصريحات وممارسات للغنوشي ورجاله إلى أزمات حقيقية كما في وصفه «داعش» بالإسلام الغاضب، واتهامه وحزبه بتسهيل هروب الإرهابيين من تونس وتشجيعهم على السفر إلى ليبيا وسوريا، وبالوقوف وراء اغتيالات قادة المعارضة في 2013 وغيرها.. لكن المخالفة هذه المرة جاءت ثلاثية الأبعاد، فهي أولا خرق دستوري لأن شؤون السياسة الخارجية من اختصاص رئيس الجمهورية حصراً ولا يصح التذرع بمقولة «الدبلوماسية البرلمانية» لأن المقصود بها وفق النظام الداخلي للبرلمان تشبيك العلاقات مع برلمانات دول أخرى، وكان الأحرى به أن يتصل برئيس البرلمان الليبي الشرعي، ثم إن التهنئة مثّلت ثانياً خرقاً سياسياً لأنها تضمنت انحيازاً واضحاً لأحد أطراف الصراع الليبي بالمخالفة لسياسة تونس التي تتبع موقفاً محايداً وتنأى بنفسها عن الاصطفاف مع المحور الذي تدعمه تركيا وقطر، وكذلك لأن رئيس البرلمان لا يستطيع اتخاذ هكذا موقف دون أن يكون التداول قد تم فيه داخل البرلمان وتمت الموافقة عليه، ولأن هذا لم يحدث فلم يكن أمامه سوى الحديث كزعيم حزب وليس كرئيس برلمان، وإن كانت الملاءمة السياسية تستوجب ألا يتبنى هكذا موقف طالما أن له صفة تمثيل البرلمان ككل. أما البعد الثالث للمخالفة فهو أخلاقي، لأن البيان الذي أصدرته رئاسة البرلمان أخفى الشق الخاص بالتهنئة وركز على تأكيد الغنوشي على أنه «لا حل عسكرياً للصراع الليبي» ومن ثم ضرورة العودة إلى المسار السياسي، وتولى بيان المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فضح الشق الخاص بالتهنئة.
وكما هو متوقع أدى تصرف الغنوشي إلى تداعيات متعددة الأبعاد منها ما هو دستوري يتعلق باحتمال خلق أزمة بين رئيس الجمهورية الحريص على حياد تونس ورئيس البرلمان الغارق إلى أذنيه في الانتصار لمشروعه السياسي، ومنها ما هو برلماني حيث رفض العديد من الأحزاب سلوك رئيس البرلمان، وأصدرت أحزاب «قلب تونس» و«الإصلاح» و«تحيا تونس» و«المستقبل» بياناً دعت فيه إلى عرض المسألة في أول جلسة عامة مقبلة للتداول، وإلى احترام صلاحيات باقي السلطات وعدم الزج بالبرلمان في سياسة المحاور وتوريط تونس في النزاع الليبي إلى جانب جماعة «الإخوان المسلمين» وحلفائها، وطالبت رئيس الجمهورية بالرد، وبالإضافة إلى هذا قادت رئيسة «الحزب الدستوري الحر» مبادرة لسحب الثقة منه، وتزايدت الدعوات إلى التدقيق في مصادر ثروته فضلاً عن تقارير بخصوص تزايد الضغوط عليه من داخل حزبه. ولأن الغنوشي ليس من السذاجة بحيث يتصور أن ما فعله يمكن أن يمر بهدوء، فقد تساءل البعض عن سبب إقدامه على فعلته، وثمة مَن يرى أنه يخشى من انعكاسات انتصار الجيش الوطني الليبي على الداخل التونسي، لذلك كان يقصد بالتهنئة أن «الإخوان المسلمين» في طريقهم إلى النصر، وقد ساد مصر حيناً من الوقت اعتقاد بأن «إخوان» تونس أكثر رشادة من «إخوان» مصر، لكن التصرف الأخير للغنوشي يضيف دليلاً جديداً على أنه ورجاله يسيرون على الدرب ذاته والذي أفضى إلى تبلور غضب شعبي مصري عارم عليهم في مدة وجيزة أطاح بحكمهم بعد أن ظنوا أنهم باقون فيه لخمسمائة عام.