أتذكر، عندما احتفلت مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في سنة 2014، في مراكش المغربية، بالشاعر العربي أبي تمام الطائي بحضور أكثر من 300 مفكر ومثقف وأديب عربي، وبإقامة ندوات نقدية وشعرية وعرض عدد من الدراسات والأبحاث والتحقيقات الجديدة عن تراث أبي تمام، استحضرنا للعديد من الإخوة أن هذا الاحتفال في مراكش هو على بعد أكثر من 6500 كيلومتر عن مدينة الموصل العراقية التي دفن فيها، ليشكل جانباً من معاناة شاعر الحماسة الذي قال ذات يوم «السيف أصدق إنباءً من الكتب.. في حده الحد بين الجد واللعب». وقد ولد أَبو تَمّام (حبيب بن أوس بن الحارث الطائي) في حوران بسوريا عام 188 للهجرة (803 للميلاد) وتوفي في الموصل عام 231 للهجرة (845 للميلاد). وعرفته العرب بشاعر الحماسة، وهو إلى ذلك جزيل العبارة رقيق الحاشية، وهو القائل:
«نقل فؤادك حيث شئت من الهوى.. ما الحب إلا للحبيب الأول/ كم منزل في الأرض يألفه الفتى.. وحنينه أبداً لأول منزل».
وكان الشاعر العباسي أبو تمام يقف شامخاً في سماء الموصل، التي سطر فيها ملاحمه الشعرية، وعمل رئيساً للبريد فيها، وهو الآتي من الشام، لكن تنظيم «داعش» الإرهابي قام في 26 يونيو 2014، بعد اجتياحه الموصل، بتدمير تمثال الشاعر أسوة بعدد آخر من شواهد التراث والتاريخ الإنساني في المدينة العريقة. لقد تم تدمير التمثال في منطقة باب الطوب وسط المدينة، وكذلك تمثال عثمان الموصلي، وهو موسيقي وملحن عراقي من القرن التاسع عشر، في دورة المحطة جنوب الموصل. وقد رأينا صوراً بشعة لأناس لا روح لهم ولا عقل يهدمون المآثر ليتبخر في ثوان معدودة تاريخ آلاف السنين لحضارات متعاقبة، باسم فتاوى لا أصل لها ولا مرجع، وهي جزء من الموجة السوداء للإرهاب التي عرفتها منطقتنا العربية في السنين الماضية، وكان هذا الإرهاب يأخذ شكل الدين ليضطرب الفهم الديني والعمل السياسي وليضطرم كل خلاف وأية خصومة مادامت تكتسب من الدين قوة عاطفية.
استحضر هذه الحادثة وغيرها لأقول إن هذا لا يجب أن يتكرر ولن تهدأ نفوس أصحاب العقول النيرة في العالم العربي والإسلامي حتى نقضي على مسببات نشأة هذه الفئات الضالة التي تتخذ من الدين جسراً تعبر به نحو أهدافها الشخصية، وتصم بفكرها الضال سماحة الإسلام ومنهجه القويم، وهذا يتطلب منا جميعاً أن نتكاتف لمنع انتشارها فهي ليست من الإسلام في شيء، بل ليست من الأديان السماوية كلها. وأقول هذا الكلام لأنه على المعلمين والمربين في مدارسهم أن يهيئوا أبناءهم الطلبة لخوض حياة تقبل الآخر، تحاوره وتناقشه وتجادله بالتي هي أحسن، فالمنهج المدرسي بيئة مناسبة لتعويد الطالب على التحاور، وتعويده على أن الخلاف مهما كان يُحَل بالنقاش والحوار، وتدريبه على الأسس الشرعية التي دعا إليها ديننا في تلقي الآخر. وإنه لَيَحسن هنا في أيام العيد هذه أن نستحضر حجم الرسالة الملقاة على عاتق الأم، فالأم المدرسة الأولى التي يتعلم منها الأبناء منذ نعومة أظفارهم ما لا يتعلمونه من الآخرين، فإن أحسنت الرعاية أينع غرسها وأثمر، بل ينبغي لكل من استُرعي أحداً من أبنائنا أن يغرس في نفوسهم أن الدين الإسلامي دين محبة وتحاور وتعايش لا دين نبذ وبغض، وقد أعطانا المصطفى صلى الله عليه وسلم وصفةً إسلامية في الحياة حين قال: «والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم.. أفشوا السلام بينكم).
إن الغلو والتطرف وما نتج عنهما من الإرهاب في السنين الماضية في بعض الدول العربية يتطلب منا جميعاً أن نتكاتف لكي لا يعود، وأن نقوم بحماية أبنائنا من الانزلاق في مسارب الأفكار المتطرفة والانتماءات الخاصة على حساب الأخوّة الإسلامية السمحة. وكل هذا يصب في مستقبل العقول التي ستبني دولنا بعد عقود من الآن والتي عليها المعتمد في تحقيق البناء الهادف لأوطاننا وضرورة خلوها من فيروسات الغلو والإرهاب حتى نبني الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك.