منذ ما يقارب نصف قرن يطرح علماء السياسة بأن حقبة الأيديولوجيا قد انقرضت. وباستثناء إيران، باتت معظم الدول تُحكم من قبل نخب سياسية استعانت بتكنوقراطيين متخصصين موالين لها لإعانتها في شؤون السياسة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ويعني ذلك أن المعتقدات الأيديولوجية القديمة والقناعات المرتبطة بها أفسحت الطريق أمام وسائل مستحدثة لإدارة شؤون الدول ومساعدة الشعوب على حل مشاكلها والتأثير على التقدم المادي والروحاني لديها.
لكن لا يبدو بأن هذا الطرح صحيح بالنسبة لتركيا على صعيد علاقاتها بدول العالم العربي، خاصة منذ (ديسمبر 2010 - يناير 2011)، فقبل تلك الفترة لم تكن دول عربية عديدة تبدو على شفا الفوضى وعدم الاستقرار الذي ظهر، بحيث يفتح أمام تركيا أو غيرها من دول المنطقة الأبواب للتدخل والتغلغل الأيديولوجي فيها.
هدفنا في هذا المقام ذو شقين مبدئيين: الأول هو إلقاء نظرة سريعة على ردود أفعال النخبة الحاكمة التركية الحالية التي يقودها رجب طيب أردوغان تجاه ما يحدث من فوضى في عدد من الدول العربية، والثاني هو عرض كيف أن أبعاداً مفصلية من سياسات هذه النخبة - خاصة التركيز على التبشير الأيديولوجي - هو محاولة لتطبيق جزء من نمط مهم ساد العلاقات الدولية على مدى التاريخ لدى بعض الأمم ذات الأهداف والطموحات الخارجية التوسعية في أراضي جيرانها.
وينشأ ذلك من أن العلاقات الأيديولوجية دائماً ما يكون لها تأثيرات رئيسية على النخب الحاكمة من زاوية مناظيرها نحو الخطر، ما يولد لدى صناع السياسة مغريات للقيام بتصدير مبادئها الأيديولوجية كوسيلة لزيادة عدد الحلفاء في النظام الدولي وتقليص عدد الأعداء، وهذه المغريات تبرز بقوة عندما تظهر القلاقل في الدول المستهدفة وتفتح الأبواب أمام الاستقطاب الأيديولوجي، ويرتبط ذلك بقابلية الدول للاختراق أثناء فترات الاضطراب السياسي - كما هو الأمر أثناء حقبة الفوضى التي ألمت ببعض الدول العربية. وأثناء تلك الأزمات يكون المناوئون الأيديولوجيون الطامحون إلى التوسع الخارجي حساسون تجاه الفرص التي تظهر أمامهم، والقائمة على الأيديولوجيا وعلى فرص تتيحها المخرجات الداخلية في الأقطار المستهدفة، ومع تطور مظاهر الفوضى في بعض الدول العربية، بدا واضحاً أن سلوك النخبة الحاكمة التركية ينطبق عليه هذا الطرح.
منذ نشأة تركيا الحالية ووصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة لم نسمع يوماً بأنها من دعاة نشر الديمقراطية خارج حدودها، كما أن الأتراك أصلاً مختلفون فيما بينهم حتى النخاع حول التدخل في العالم العربي، فما بالك بنشر الديمقراطية فيه؟!
نعم هم قاموا بدعم المتظاهرين والمحتجين في أقطار عربية لدى تركيا فيها مصالح اقتصادية محدودة وتعاون استراتيجي قليل، ووقفوا مع نظم حاكمة تتقاسم معها تركيا مصالح مادية هامة، لكن مع مرور الوقت أصبحت تركيا مشغولة أكثر فأكثر باستبدال نظم سياسية قائمة تتشارك معها أنقرة مصالح رئيسية.
وربما أن السبب الجوهري لهذا التحول يعود إلى الاعتقاد بأن السياسة الخارجية غير الأيديولوجية هي أمر مضر بالمصالح التركية وتبديد لإمكانياتها من القوة الداعمة على امتداد العالمين العربي والإسلامي.
تدعى النخبة السياسية التركية الحالية التزامها بالديمقراطية، وهذا أمر غير واقعي. ووفق هذا الادعاء- حتى ولو كان صادقاً- فإن عدم دعم المظاهرات الشعبية في الدول العربية يعتبر هدماً رئيسياً لمبادئ نشر الديمقراطية ويظهر تركيا وكأنها تمارس الوصاية والأنانية.
لذلك فإنه على العكس من ذلك دعم المظاهرات يوفر الفرصة لها لدعم جماعات أخرى للوصول إلى السلطة تكون متقاطعة مع الأهداف والمصالح التركية، وفي الوقت نفسه تقوم فيه بتقوية روابطها مع حلفاء ديمقراطيين تقودهم الولايات المتحدة، وهذا يعزز نفوذ تركيا في العالم العربي، ويوفر لها فرصا مواتية كبرى لتعزيز أمنها.
وفي حالة تركيا وفوضى العالم العربي تعارض بين الأيديولوجيا والمصالح، كما هو متعارف عليه في أدبيات العلاقات الدولية، لكنهما متداخلان في بعضهما بعضاً بشكل لا يمكن الخلاص منه.
*كاتب إماراتي