هل تبقى لندن عاصمة لبريطانيا، أو تعود عاصمة لإنجلترا وحدها؟ يفرض هذا السؤال نفسه بعد تعثّر المفاوضات بين الحكومة البريطانية من جهة، والحكومات المحلية في كل من اسكتلندا وشمال إيرلندا وويلز من جهة ثانية حول طبيعة العلاقات الاقتصادية والمالية، وحتى حول العلاقات السياسية بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (البريكست).
في الأساس كانت لندن هي عاصمة لإجلترا، إلا أن الأخيرة تشكل وحدها 84 بالمائة من عدد سكان بريطانيا، ويشكل دخلها 85 بالمائة من الدخل القومي. كان الملك هنري الثامن (الذي أوجد الكنيسة الانجليكانية المستقلة بالانشقاق عن الفاتيكان) قد أعلن «أن هذه المملكة الإنجليزية هي إمبراطورية، وأنه لا يجوز لملكها أن ينحني لبابا أجنبي».
هيمنت إنجلترا عل كل أجزاء الجزيرة التي تُعرف الآن ببريطانيا، وتداخل الاسمان –إنجلترا وبريطانيا- وكأنهما اسم لكيان واحد. حتى إن المؤرخ الشهير في العهد الفيكتوري (نسبة إلى الملكة فيكتوريا التي شهد عهدها أكثر حركات التوسع في العالم شرقاً وغرباً) ج.آر. سيلي اتخذ عنواناً لكتابه التاريخي عن الإمبراطورية البريطانية هو:«التوسع الإنجليزي».
لم تعمل إنجلترا على تذويب الشخصيات القومية في اسكتلندا وويلز وإيرلندا في شخصيتها الطاغية، بل إنها وافقت على أن يكون لكل منها برلمان وحكومة محلية. وكانت –ولم تزل- تتولى تسديد النفقات المالية اللازمة لهذه المجالس علماً بأنه لا يوجد برلمان محلي لإنجلترا ! فمجلس العموم هو برلمان بريطاني – وليس إنجليزياً- بمعنى أنه يضم ممثلين عن اسكوتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز، إلى جانب ممثلي إنجلترا.
من أجل ذلك لم تكن بريطانيا دولة قومية واحدة. كانت تتألف من عدة قوميات. وبقيت هذه الصيغة إلى أن جرى الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وأيّد الإنجليز بأكثرية ساحقة الانسحاب (ربما استمراراً لعقلية الملك هنري الثامن). فالاتحاد الأوروبي الذي بدأ اتحاداً اقتصادياً، تحوّل إلى اتحاد سياسي. وإنجلترا لم تهضم أن تكون مجرد زائد واحد إلى عدد المنضوين تحت لواء الاتحاد. هذه المشاعر لم يتشارك فيها الاسكتلنديون والإيرلنديون الذين صوّتوا بأكثرية كبيرة للبقاء في الاتحاد الأوروبي. بمعنى أنهم فضّلوا ربط مستقبلهم الاقتصادي – المالي – السياسي مع الاتحاد، وليس مع إنجلترا.
من هنا فُتحت أبواب البحث واسعة أمام مشاريع تقرير مصير مستقل لكل من اسكتلندا وإيرلندا الشمالية. فالأولى تطرح –لمرة جديدة- موضوع الانسحاب من المملكة المتحدة، وإعلان الاستقلال، والثانية تدرس أفكاراً جديدة حول العودة إلى الوحدة مع إيرلندا الجنوبية.
فعندما صوّت الاسكتلنديون بأكثرية ساحقة للبقاء في الاتحاد الأوروبي كانوا يترجمون بذلك الاستجابة إلى مصالحهم الاقتصادية المباشرة، كما كانوا يترجمون تطلعاتهم القومية بأن يكونوا دولة مستقلة. وقد حاولوا ذلك مرات في السابق. وكانت آخر مرة عن طريق استفتاء شعبي عام – قبل البريكست- ولكن نتائجه جاءت لمصلحة البقاء في المملكة المتحدة. اما الآن – بعد البريكست- فإن الاستفتاء الذي يطالبون به مرجح لأن يعطي نتيجة عكسية.
أما إيرلندا الشمالية فكانت انفصلت عن إيرلندا الجنوبية على خلفية صراع ديني بين الكاثوليك (الذين يشكلون أكثرية ساحقة في الجنوب) والبروتستانت (الذين يشكلون أكثرية في الشمال) ووقفت إنجلترا (الانجليكانية)، إلى جانب إيرلندا الشمالية بالسلاح والمال والسياسة والدين مما أطال أمد الحرب الأهلية. أما الآن فإن التغيير الديموغرافي – الديني بدأ يفرض نفسه على واقع العلاقات بين الشمال الإيرلندي وجنوبه، ذلك أن الكاثوليك في الشمال يتزايدون بوتيرة سريعة فيما تتناقص أعداد الانجيليين منهم (معروف أن الكنيسة الكاثوليكية تحرّم الإجهاض فيما تبيحه الكنيسة الانجيلية). وأن الجنوب تمرّد على بعض المبادئ التي تطبقها الكنيسة، وهذا يعني أن الكثير من المياه مرّت من تحت جسر الصراع بين الشمال والجنوب، وأن مصالحهما المشتركة تشكل اليوم أساساً لاستعادة الوحدة. والوحدة الإيرلندية تعني الانفصال عن إنجلترا.
يبقى الأمر مرهوناً بموقف إنجلترا في الدرجة الأولى: هل تفضّل الهوية الإنجليزية الخاصة على الوطنية البريطانية المشتركة؟ لقد كان التصويت الإنجليزي الكثيف ضد البقاء في الاتحاد الأوروبي إعلاناً على التمسك بالهوية الإنجليزية، ولذلك اعتبرت نتائج الاستفتاء انتصاراً إنجليزياً. ولكن حتى الآن لم تنجح محاولات تصوير هذا الانتصار (الإنجليزي) على أنه ليس بالضرورة هزيمة للهوية البريطانية.
صحيح أن إنجلترا لم تكن دائماً على علاقات ودية مع أوروبا (فرنسا وإسبانيا تحديداً)، فهل تستطيع أن تقيم علاقات ودية (عبر الأطلسي) مع الولايات المتحدة على خلفية أنجلوسوكسونية؟.. وهل يشكل الرئيسان ترامب وجونسون رأسيْ جسر الودّ المفقود؟
*كاتب لبناني