هناك العديد من المؤشرات التي تدل على أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تتحول وبسرعة إلى حرب باردة، مما سيترتب عليه تداعيات خطيرة تضاف إلى تلك التداعيات الناجمة عن جائحة كورونا التي ساهمت بدورها في تسريع وتيرة هذا الصراع.
الطبيعة الحالية للحرب الباردة تختلف عن سابقتها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إذ يغلب الطابع الاقتصادي هذه المرة بعد تغير الظروف وانتقال العالم إلى عصر التقنيات الحديثة واقتصاد المعرفة، وكذلك النمو الهائل للاقتصاد الصيني في السنوات الماضية.
كيف حدث ذلك؟ هذا سؤال مهم يمكن من خلال الإجابة عليه التوصل إلى الأسباب التي تقود الآن للحرب الباردة المتوقعة، فقبل ثلاثة عقود كان الاقتصاد الصيني يعتمد أساساً على الزراعة ببنية صناعية وتقنية متواضعة وبناتج إجمالي يصل بالكاد إلى تريليون دولار. في تلك الفترة اتبعت الصين وبذكاء شديد سياسة الانفتاح الاقتصادي مع وجود أيدي عاملة رخيصة ومدربة، حيث جذب ذلك استثمارات أجنبية هائلة، وبالأخص أميركية وأوروبية وتم نقل آلاف المصانع من هذه البلدان إلى الصين مدفوعة بهوس رؤوس الأموال الباحثة عن تعظيم الأرباح دون النظر إلى بقية الاعتبارات الاستراتيجية.
أتاح ذلك تحقيق معجزة اقتصادية للصين لينتقل اقتصادها من المرتبة العاشرة إلى الثانية عالمياً بناتج محلي إجمالي بلغ 13.4 تريليون دولار عام 2018، حيث يتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الأميركي في السنوات القادمة، حيث يعود الفضل في ذلك إلى هجمة الاستثمارات والتقنيات الأجنبية الباحثة عن الأيادي العاملة الرخيصة والأرباح العالية.
لم يكن ذلك التطور السريع بخاف على الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، إلا أن الاستراتيجية بنيت على أساس أنه يمكن نقل بعض الصناعات إلى الصين والانتقال إلى الاهتمام بصناعة التقنيات الحديثة، كالاتصالات والتجارة الالكترونية والبرمجيات والذكاء الاصطناعي، مما سيشكل فرقاً، مقارنة بتلك التي انتقلت إلى الصين! إلا أن إغراء الأرباح أدى إلى انتقال صناعات الاتصالات الحديثة أيضاً إلى جانب الصناعات الأخرى.
ذلك يعني أن الأمور لم تسر وفق هذه المنهجية، إذ سرعان ما قلبت الصين الطاولة على الغرب، ففي مقابل أمازون تم تأسيس «علي بابا» الصينية عام 1999، وفي مقابل «أبل» تم تطوير «هواوي» وهكذا، بحيث أضحت الصين منافساً قوياً في الاقتصاد الحديث المبني على تقنيات التواصل والمعرفة والذكاء الاصطناعي، وهو تحدي حقيقي للهيمنة الأميركية، حيث تحاول واشنطن الآن إيقاف هذا الاندفاع الصيني من خلال التهديد والعقوبات، وبالأخص في ما يتعلق بخدمات وتقنيات هواوي الرخيصة، مما سيترتب عليه تحديات اقتصادية وأمنية واستراتيجية ستؤدي إلى ميل الكفة لصالح الصين، وهوما يعني الدخول في حرب باردة بين العملاقين.
أول من انتبه لهذا الخلل، هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب والذي يبذل جهوداً كبيرة باتجاهين، أولا تشجيع عودة الشركات الأميركية من الصين وإعادة تموضعها في الولايات المتحدة، وقد حقق بعض النجاح ووفر ملايين من فرص العمل للأميركيين، وثانياً محاولة خنق السلع والتقنيات الصينية المنافسة بشتى الوسائل، بما فيها إمكانية الدخول في حرب باردة جديدة وبغض النظر عن عواقبها المحتملة، إلا أن ذلك سيتوقف على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر نوفمبر القادم.
باعتقادنا أن هذا التحول حدث بسبب هوس الرأسمالية المتوحشة لتعظيم الأرباح على حساب استغلال الأيدي العاملة الصينية الرخيصة، وذلك قبل ان ينقلب السحر على الساحر. بالتأكيد الاقتصاد الصيني سيحقق نموا في كل الأحوال، ولكن ليس بهذا التسارع المبني على التقنيات الغربية، وبالأخص الأميركية المتقدمة والتي سرعت من عملية التحول هذه.
الحرب الباردة ستلحق ضرراً بالاقتصاد الدولي، مما يتطلب البحث عن مساومات وحلول وسط من خلال القبول بالتنين الصيني، كمنافس مع حفظ المصالح العامة للعم سام، فالتحول تم وقضي الأمر، وكما يقول مثلنا المحلي «خبزا خبزتيه يالرفلة اكليه!».
*مستشار وخبير اقتصادي