حادثة مقتل جورج فلويد في مدينة مينيابوليس أعادت إلى الأذهان أهمية الجماعات العفوية «Anomic Groups» وما تعكسهُ وتفرزهٌ من مؤشرات ومؤثرات، والتي تتشكل بصورة عفوية دون تنظيم وتخطيط مسبق، وتهدأ بصورة مفاجئة. وتعتمد قوتها ومدتها على تراكم القضايا الحبيسة في نفوس شرائح اجتماعية معينة، وأيضاً على مقدار السخط على إداء الحكومات ومستوى الحياة والعدالة والمُعضِلات الثقافية، فخروج الجماعات العفوية يحتاج إلى فتيل ما يقود إلى تفجير إحدى القضايا والاستياءات من المكنونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجاثمة على نفوس الكثيرين من البشر.
ففي قضية جورج فلوريد بدأ قدح شرارة خروج الجماعات العفوية عندما قدم صاحب متجر شكوى للشرطة بأن النقود التي أخذها من «فلويد» ربما تكون مزورة، وأثناء تثبيته على الأرض بُغية اعتقاله من قبل شرطة المدينة، قام ضابط شرطة يدعى «ديريك شوفين» بالضغط على عنق «فلويد» لمنعه من الحركة في عملية الاعتقال، التي عكست جانباً من استغلال السلطة، وصورةً حركت خلجات النفوس تجاه المعاملة العنصرية ضد السود، خاصة وإن القتيل كان يردد «لا أستطيع التنفس» مع صراخ بعض المارة مطالبين من الشرطي التوقف عن خنقه، فكلمات فلويد «لا أستطيع التنفس» انتشرت عبر جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. فبعد مقتل «جورج فلويد» خرجت مظاهرات عارمة سلمية عبر الجماعات العفوية، التي أخذ يتزايد الزخم فيها نحو الشغب والعنف والنهب مخلفةً خسائر مادية وبعض القتلى في العديد من المدن الأميركية. حقيقةً، خروج الجماعات العفوية في هذه الحادثة من مختلف الأعراق كان صورة معبرة عن قوة الغضب والحنق المدفون على انتشار واستمرار مظاهر وسلوكيات العنصرية ضد السود الأميركيين، ومن الأهمية بمكان أن نشير بأن قوة الانتشار والعنف المصاحب لها تعكس امتعاضاً كبيراً في قضايا أخرى كالبطالة وارتفاع عدد الفقراء وغيرها من المسائل المدرجة تحت ضعف أداء السياسات العامة.
ولقد ساهمت الجماعات العفوية في حادثة «فلويد» في خلق بيئة مناسبة لبروز قوة وأهمية حركة «أنتيفا» المناهضة للفاشية والعنصريين البيض، وهي جماعة منظمة غير أنها متعددة الميول الأيديولوجية من اشتراكية وليبرالية، ولها أعمال متعددة في التصدي لليمين المتطرف أهمها فضح سياسات وشخصيات التطرف والعنصرية في الولايات المتحدة عبر الوسائل الإلكترونية. وقد يكون لـ«حركة أنتفا» تأثيراً عابراً للحدود كنموذج يحتذى به لصد تنامي العنصرية واليمين المتطرف في أوروبا، وغيرها من البلدان التي تعاني التمييز العنصري. بالفعل، أصبحت حركة «أنتيفا» معروفة لدى الكثير من الأميركيين، ومحلا للتنافس الانتخابي الأميركي، فبينما يطالب الرئيس دونالد ترامب بتصنيفها كمنظمة إرهابية، يتعاطف ويتعاطى مع مبادئها وشعاراتها المرشح «الديمقراطي» بايدن.
الخلاصة، الجماعات العفوية السلمية والعنيفة في هذه الحادثة المرتبطة بالأمة الأميركية مثّلت مقياساً حقيقياً لمدى الرضا الشعبي على الحكومات المحلية والحكومة الفيدرالية وفرصةً لتقويم وتعديل التشريعات والسياسات، كما عكست معضلة التميز العنصري التي أخذت تتزايد في بلد الحرية، وبلد جل سكانه مهاجرون من مختلف بقاع الأرض، علاوة على إنها أبرزت قضية الاستغلال والإفراط في استخدام السلطة القانونية الممنوحة، ومع كل ذلك، سيكون لها تأثيرات كبيرة على الناخب الأميركي، خاصةً وإن معظم السود والأقليات الأخرى هم في دائرة الحزب «الديمقراطي»، ولا نغفل على إن هناك شريحة لا يستهان بها من العرق الأبيض أصبحت تناهض الثقافة العنصرية، وتحاول محاربة الفقر والبطالة مع آفاتها من انتشار المخدرات والجرائم المتعددة.