دلالات كثيرة للمواجهة الحادة التي شهدها البرلمان التونسي أخيراً بين الليبراليين والإسلاميين، خلال جلسة كانت أقرب إلى «مساءلة» رئيسه كما اعتبرتها أحزاب المعارضة، منها إلى «جلسة حوار» كما وصفها حزبه (حركة النهضة)، في العادة، تشهد المناقشة توتّراً لدى طرح شؤون داخلية تناقض فيها السياسات والمصالح الانتخابية، لكنها تطرّقت هذه المرّة إلى سياسة تونس حيال ليبيا والصراع المسلّح الدائر فيها، ثمة تحليلات وتكهنات تناولت الموقف التونسي، تحديداً منذ العام 2014، غداة استيلاء الميليشيات على العاصمة طرابلس، إلا أن تونس تمكّنت خلال رئاسة الراحل الباجي قائد السبسي من اتّباع خط محايد، والسائد أن الرئيس الحالي قيس سعيّد يلتزم هذا الحياد، فما تشدّد عليه تونس هو رفض التقاتل وتغليب الحل السياسي.
وبما أن السياسة الخارجية من اختصاص رئيس الجمهورية دستورياً، فقد كان متوقّعاً أن تلتقط أحزاب المعارضة، ولا سيما الحزب الدستوري الحرّ، تحركات لزعيم «النهضة» راشد الغنوشي، تريد استدراج تونس إلى الانحياز لمصلحة الجماعات الإسلامية/ الإخوانية في طرابلس، ففي يناير الماضي قصد الغنوشي أنقرة والتقى الرئيس رجب طيب أردوغان بمفرده، وفُهمت زيارته غير الرسمية على أنها تزكية للتدخل التركي في ليبيا، لكن «النهضة» دافعت عن اللقاء بأنه جرى بين الرجلين بصفتيهما الحزبية، أما الغنوشي فقال إنه أبلغ الرئيس سعيّد بهذا اللقاء، ولم يصدر عن الأخير تأكيد أو نفي، كما لم يُعلَن شيء عن فحوى المحادثات، وما لبث رئيس البرلمان أن بادر في مايو الماضي إلى الاتصال برئيس حكومة «الوفاق» فايز السراج، لتهنئته بسيطرة قوات طرابلس على قاعدة الوُطْية غربي ليبيا، فاعتُبرت هذه الخطوة انحيازاً سافراً إلى طرف ليبي ضد آخر.
وهكذا، فإن المساءلة جرت على أساس أن الغنوشي خرق السياسة التونسية الرسمية القائمة على عدم التدخّل في الشأن الليبي، وهو استبقها بردّين يحتاجان إلى توضيح رئاسي، ففي أولهما أكد أنه التزم «ضوابط» السياسة الخارجية، وفي ثانيهما قال إن «الحياد السلبي لا معنى له»، وفي الجدل الذي سبق المساءلة، راحت أوساط حزبه تروّج أن زعيمها يمثّل ما سمّته «الدبلوماسية البرلمانية» ويتحرّك في إطارها، ومع أن هذا المصطلح ليس معروفاً ولا معتمداً في العلاقات بين البرلمانات ورؤسائها، إلا أنه استُنبط هنا للدفاع عن الغنوشي، ويُشتبه في كونه يمهّد لتبرير أنشطته المقبلة.
مثلما أن حجج الحزب وزعيمه لم تنجح في تغطية تجاوزه دبلوماسية الدولة، كذلك لم يكن متوقّعاً أن تنجح المعارضة في سحب الثقة من رئيس البرلمان، فرغم أن معظم الكتل السياسية يؤيّد المآخذ عليه، إلا أنها لا تميل حالياً إلى زعزعة البرلمان أو الائتلاف الحكومة، الذي أمكن بناؤه بعد جهود مضنية، لذا اعتبرت المساءلة بمثابة «إنذار» للغنوشي، لكن يُفترض التنبّه، على سبيل المتابعة للمساءلة، إلى أن إسلاميي تونس يراهنون على تركيا لإنعاش طموحاتهم السياسية، من خلال سعيهم لسيطرة إسلاميي طرابلس على عموم ليبيا، وفقاً لما تروّجه أوساط حكومة «الوفاق»، لكن مثل هذا السيناريو لن يتحقّق.