مدهش كيف يواصل الأميركيون الخروج، أليس كذلك؟ فيوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة، يواصل الناس، في عشرات المدن، النزول إلى الشوارع بأعداد كبيرة، متحدّين فيروس كورونا القاتل .. للمطالبة بالمساواة والعدالة، دافعين، أخيراً، نحو ما يبدو تغييراً حقيقياً، فكيف حدث هذا؟ وكيف جلبت حركة «حياة السود مهمة»، التي بدأت كوسم على الإنترنت، ثم كبرت وتطورت على مدى سنوات، أميركا إلى ما يبدو أشبه بنقطة تحول؟
أعتقدُ أن الاحتجاجات انفجرت حجماً وقوة، لأن الشرطة سعت جاهدة على ما يبدو إلى أن تُبرز بالضبط صحة الحجج، التي لطالما دفعت بها حركة «حياة السود مهمة» على الإنترنت منذ عام 2013، فخلال الأسبوعين الماضيين مثلاً، كان رد فعل الشرطة على الحركة جد مرتبك، وجد موثَّق، لدرجة أنه لم يكن يعمل سوى على زيادة الدعم للاحتجاجات، ونتيجة لذلك، قد يكون الرأي العام الأميركي انحاز إلى حركة «السود مهمة» للأبد.
لا أقصد شرطة الولاية أو البلدية عبر البلاد فقط، ولكن أيضاً الضباط الفدراليين من الوكالات المختلفة التي قمعت المحتجين أمام البيت الأبيض، وكذلك داعميهم ورعاتهم السياسيين.
تهدف حركة «حياة السود مهمة» إلى تسليط الضوء على الظلم، وانعدام المساءلة الموجود في المجتمع الأميركي، وخاصة أجهزة إنفاذ القانون تجاه السود، فقد خرج الكثير من المحتجين من أجل لفت الانتباه إلى السلطة غير المقيدة التي تتمتع بها الشرطة، وأسلحتها العسكرية، واستخدامها المفرط لها، وأرادوا أن يُظهروا أن مشكلة عمل الشرطة في أميركا هي أكثر من مشكلة ضباط سيئين، وإنما مشكلة ثقافة تحمي الظالمين، وتتساهل مع الكذب، وتقاوم التغيير، إنها ثقافة إنفاذ قانون تعتبر أن أرواح السود غير جديرة بالحماية، لكن، ماذا فعل ضباط الشرطة؟ لقد ردّوا بإظهار سلطة منظمة وغير مقيدة (أمام الكاميرات)، وبطريقة قد لا يستطيع كثير من الأميركيين محوها من ذاكراتهم.
والواقع أنه سبق لحركة «حياة السود مهمة» أن خرجت إلى الشوارع للاحتجاج من قبل، ولكن ليس على هذا النطاق، وليس بمثل هذه الكثافة، ولم تحقق مثل هذه النتائج، وعلى سبيل المثال، فإن «الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية» كان في الماضي خصماً قوياً، لكنه اليوم احتضن الحركة، رغم أنه لم يعتذر بعد لكولن كبرنيك أو يوقع معه، وهو اللاعب الذي كان أول من جثا على ركبته احتجاجاً على وحشية الشرطة، وفضلاً عن ذلك، أخذ السياسيون على كل المستويات يعلنون عن دعمهم للحركة، كما اتسعت دائرة الخطاب العام المقبول حول إصلاح الشرطة لتشمل مصطلحات من قبيل «إزالة الطابع العسكري» و«وقف التمويل» و«الإلغاء».
ومن غير المعروف إلى أي مدى ستذهب السياسة، لكن التغيير المسجل حتى الآن مهم. وفي هذا السياق، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي، تقول: «لم يسبق أبداً في تاريخ استطلاعات الرأي الحديثة، أن عبرّت البلاد عن مثل هذا الاتفاق واسع النطاق على تفشي العنصرية في عمل الشرطة، وفي المجتمع بشكل عام».
ولعل الأهم من ذلك هو أننا لم نعد نتحدث فقط عن فرض قيود جديدة على الكيفية التي يمكن للشرطة أن تشتغل بها، بل شرعنا أخيراً في طرح أسئلة سياسية أكثر جوهرية من قبيل: ما هي الأدوار التي ينبغي أن تسند للشرطة في مدننا؟ وما هي الأدوار التي يمكن أن تؤدى على نحو أفضل، من خلال توظيف عدد أكبر من المعلمين أو العمال الاجتماعيين أو خبراء الصحة العقلية؟
إن السبب المباشر للاحتجاجات التي اندلعت في العديد من المدن الأميركية مؤخراً، كان هو فظاعة موت جورج فلويد، غير أنه سبق لنا أن رأينا مقاطع فيديو لأفراد من الشرطة يقتلون رجالا سوداً من قبل، ونادراً ما أدت تلك الفيديوهات إلى محاكمة جنائية، ناهيك عن انتفاضة مجتمعية واسعة، وعليه، فإن ما يحدث الآن يتعلق بأكثر من ذاك الفيديو، فمثلما حدث في قضية وينشتاين وحركة «أنا أيضاً»، عندما خرجت نساء إلى العلن ليروين قصص اعتداء أكثر من أن يتم تجاهلها أو التقليل من شأنها، فإن ما رأيناه في الأسبوعين الأخيرين هو حلقات قوة مفرطة أكثر وأفظع من أن نخلص معها إلى أن المشكلة هي مشكلة بضع حالات معزولة، فالأدلة على وحشية الشرطة أضحت أوسع وأكثر من أن يتجاهلها حتى المسؤولون المنتخَبون، وهؤلاء لم يعودوا يستطيعون تدليل اتحادات الشرطة في مقابل دعم سياسي، فتجاهل سوء تصرف الشرطة الآن سيصبح عبئاً سياسياً، وربما سيتغير شيء ما.

*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»