في الوقت الذي أعلن رئيس وزراء تركيا ووزير خارجيتها الأسبق أحمد داوود أوغلو تشكيل حزبه السياسي «حزب المستقبل»، صدر له كتاب جديد بعنوان «الزلزال النسقي والصراع حول النظام الدولي»، يقدم فيه قراءته للمتغيرات العالمية الراهنة ومنزلة بلاده فيها. كتاب أوغلو هو عمله الرئيس الثالث بعد كتابيه «النموذج البديل» الذي قدم فيه تصوره النظري للعلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، و«العمق الاستراتيجي» الذي بلور فيه المشروع الاستراتيجي والدبلوماسي لـ«حزب العدالة والتنمية» الذي حكم تركيا دون انقطاع منذ 2002.
كان أوغلو هو «العقل المفكر» للحزب الذي انشق عن الحركة الأربكانية، وقد طرح أوانها فكرة تشكيل حزب واسع يخرج من ضيق تيار الإسلام السياسي ليكون كتلة واسعة تستقطب نخب الأناضول المحافظة والمجتمع الصوفي والقوى الصناعية التجارية المحلية، مع الانفتاح على الاتجاه الأورو آسيوي الذي تزايد نفوذه في عهد «توركت أوزال» في سياق انفتاح تركيا على البلدان القوقازية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
لايمكن تفسير نجاحات «حزب العدالة والتنمية» المتكررة إلا بفهم هذه المعادلة الائتلافية الواسعة التي استغلها الرئيس الحالي أردوغان في مشروعه لتسلق السلطة والانفراد بها بعد القضاء على كل التوازنات المؤسسية التي كان يقوم عليها النظام السياسي التركي منذ الخمسينيات.
وكان أوغلو هو العقل المفكر للمشروع الأردوغاني، من خلال كتاباته النظرية وتجربته في المسؤولية مستشاراً لأردوغان ثم وزيراً لخارجيته ورئيساً لحكومته بعد التغييرات الدستورية التي ألغت النظام البرلماني ورئيساً للحزب الحاكم قبل أن تنقطع حبال الود بين الرجلين.
ويمكن إجمال أطروحات أوغلو في ثلاث أفكار أساسية، هي مقولة «التحول الحضاري»، ويعني بها الانتقال من العامل الأيديولوجي القطبي المحدد في العلاقات الدولية إلى دور المعطيات الثقافية والحضارية في تشكل المحاور الاستراتيجية في العالم، مع الرهان على قيام محور حضاري إسلامي فاعل بقلب تركي، ومقولة «العمق الاستراتيجي» ويعني بها عودة تركيا إلى دورها الإمبراطوري السابق (العثمانية الجديدة) من خلال استثمار موقعها كبلد محوري مفتوح على ثلاثة فضاءات كبرى هي الشرق الأوسط والبلقان والعالم القوقازي، وفق ما أطلق عليه «تطبيع التاريخ» و«استثمار الجغرافيا». ومقولة «الديمقراطية الجامعة» كبديل مكمل للديمقراطية الانتخابية التي يمكن أن تكون أداة للاستبداد السياسي.
ليس في هذه الأفكار عمق فلسفي حقيقي، رغم ميل أوغلو للرجوع لكبار الفلاسفة والمفكرين المسلمين والغربيين، بل هي أفكار لا يتسنى فهمها إلا في سياق المشروع السياسي لـ«حزب العدالة والتنمية» في العقدين الأخيرين.
وبعد انفصال أوغلو عن أردوغان (ومعه اثنان من أهم مؤسسي الحزب هما الرئيس الأسبق عبد الله غل والقيادي الهام والوزير السابق علي باباجان)، نعته بالتسلط والاستبداد والفساد، وذهب في رسالة طويلة بعثها إليه في 22 أبريل 2019، إلى أن مشروع الحزب قد انهار وأصبح معزولا في الشارع التركي. وفي الاتهامات الأخيرة التي وجهها إليه، ركز أوغلو على التضييق على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وإفساد العلاقات بين تركيا وجيرانها خصوصاً في الشرق الأوسط، كما اعتبر أن أردوغان رجع عن خط التوازن المطلوب بين الحرية والأمن والمصالح والقيم.
ولا شك في أن هذه الاتهامات صحيحة. كما أنه لا مناص من الإقرار بأن سياسات التدخل الخرقاء في الأزمات الشرق أوسطية، وآخرها ما حدث في ليبيا، حولت تركيا إلى معضلة إقليمية كبرى وإلى بلد معزول في المنطقة. إلا أن أوغلو نفسه يتحمل جانباً كبيراً من هذه المسؤولية. ففي فترة توليه حقيبة الخارجية ظهرت السياسات العدوانية تجاه الدول العربية، كما كان شاهداً فاعلا على تضييق الحريات السياسية واعتقال قادة الرأي وتسريح آلاف القضاة والضباط بعد المحاولة الانقلابية الغامضة عام 2016.
أما فكرة التمدد التركي في اتجاه الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشرق المتوسط ومنافسة روسيا في وضع البلد المركزي في المجال الأورو آسيوي، فهما أيضاً من تصور أوغلو، وقد سعى إلى تثبيتهما من خلال مفهومه للعثمانية الجديدة الذي يدعي اليوم أنه تخلى عنه.
وما لا يعرفه الكثيرون أن أوغلو تربى في حضن تيار الإسلام السياسي وأعاد صياغة العديد من أطروحاته، وفي مقدمتها فكرة «النموذج الحضاري البديل» التي استقاها من عبد الوهاب المسيري، كما استند إلى سيد قطب والمودودي في فكرة «دار الإسلام» كخيار بديل عن «الدولة القومية السيادية».. وهو اليوم يحاول من خلال صياغات جديدة إنقاذ حركية الإسلام السياسي التركية بعد أن أصبح أردوغان في نسخته الجديدة أقرب إلى التيار القومي التركي المتشدد ومتحالفاً مع تنظيماته الحزبية ومتقوياً بالأجهزة الأمنية العسكرية التي كان في السابق يطلق عليها «الدولة العميقة».
والحقيقة الماثلة للعيان أن مشروع «العدالة والتنمية» قد بدأ في خط الانكسار منذ انتخابات مارس 2019 التي هُزم خلالها في كبريات المدن، وخصوصاً إسطنبول وأنقرة، كما أن انشقاق عدد من رموزه الكبار دليل واضح على هذا التراجع والانهيار.
وأمام المخاطر الحقيقية التي تشكلها سياسات أردوغان في المنطقة العربية، لا مكان للرهان على «الخوجة» أوغلو الذي خدع العرب بشعار سياسة «صفر أعداء» في الوقت الذي تحول إلى عرّاب مشروع الهيمنة التركية على العالم العربي باسم العثمانية الجديدة.