استغرقتُ أسابيع عدة، مكمماً، لأكتشف أنني فقدتُ حاسة الشم. عندما كنت أتمشى في الشوارع (وأنا لم أفوّت يوماً واحداً من دون أن أخرج من بيتي، رغم منع التجول والإغلاق)، وأتمتع بمرأى الأشجار المصفوفة على جوانب الطرق، وكذلك النباتات والورود التي أحاذيها، لم أنتبه إلى أن العالم حولي بات بلا رائحة، (كل شيء في هذا العالم رائحة) بلا شميم، رائحة اللارائحة، شميم اللاشميم، ينسمّ الهواء وأرى أوراق الأشجار المختلفة بألوانها، وأغصانها وجذوعها. وعندما دخلتُ إلى «السوبرماركت» للتبضع، امتدت أمامي الفاكهة والخضار والأجبان واللحوم والمخبوزات، لكن كلها عديمة الرائحة، عديمة الفوح. مجرد معروضات «رائعة»، فلا مشموم التفاح أو الموز أو الجزر والخيار طافح. فأنفي مسدود بكمامة وكأن كل هذه الأنواع باتت مجردة من رائحتها. أتنفس الكمامة فترتد أنفاسي إليها، بل وبعد شهر أو شهرين، كدتُ أخاف من تلك الروائح؛ لأنها مغطاة بالفيروس. لا تلمسها إلا إذا كنت واضعاً القفازات، حتى كأنها هي أيضاً تضع القفازات، عليك أن تلتقطها برؤوس أصابعك إذا لم يكن بقفازات، وتبعدها مسافة عنك، لكي لا تصيبك بالعدوى. تخشاها أولاً وثانياً وثالثاً: فاللمس ممنوع لهذه الموجودات والمأكولات، كما تعامل أي صديق في الشارع بالتباعد مترين على الأقل، لأنك تخشى أنفه، ويخشى فمك، وترتاب بأنفاسه، ارتيابك بأنفاسك، كبرت مسافة الهواء التي تنقل رائحة الشخص «ملابسه، عرقه، وعطره..»، فالناس كـ«الفيروس» بلا رائحة، وحذارِ أن تخطئ وتحاول أن تشمّ ما في يديك حتى الكتاب أو الجريدة، فهناك المحظور، وهنا الموت، عليك أن تقتنع بأن الناس والأشياء والنباتات والأزهار، باتت بلا رائحة. فالموت في الرائحة، والموت في الملمس، وهذا يعيدك إلى وسواسك: هل ستعتاد ما آل إليه العالم: بلا لمس، بلا شميم، ليصبح مع الوقت من عاداتك، ومن هواجسك، ولا عليك أن تفكر كثيراً في هذه المسألة المؤقتة، لكي لا تصبح دائمة، متصلة بأمراض النفس، والبدن، والبعد، والخشية، والنفاد؟
لكن، عندما تحمل أغراضك إلى البيت وتنزعها من أكياسها، عليك أن تسحب كل حبة منها، أو كل باقة، وأنت تتسلح بورقة كلينكس. ولهذا إياك أن تعوض عدم شميمك إياها في المحال والشوارع وبتقريبها من أنفك، لتقتنع بنفسك بأن عليك ألا تنزع الكمامة، وأنت ترفع تفاحة، أو باقة نعناع، فدعها في ملموساها ومشمومها بعيدة.
ثم عليك، أن تعقمها «كما تعقم يديك وحتى ملابسك» ثم تنشفها، وهنا، يمكن أن تتجرأ «وإن بخوف» على تقريبها من أنفك، وهنا، تعينك جرأتك على رفعها أمام وجهك وتشمها وتكاد تصرخ: آه ما أروع فوح التفاح الجبلي أو الخيار الشمسي.. لكن، حتى في هذه البهجة الانفرادية، تتوقف فجأة: ماذا لو لم أعقمها جيداً؟ وهنا بالذات يسري خوف في أوصالك. فالفيروس يحط على الأجسام الصلبة، الطاولات، الكراسي، القبعات، الكتب، والفاكهة، فتعمد مرغماً لحل هذه الإشكالية إلى تقشيرها، ولكن عليك أن تعقم السكين، فقد يكون التقط منها طرفاً من الفيروس!
تبتعد عنها قليلاً ثم تقاربها «كما تقارب أفعى» وتتركها على الطاولة.. لتحتفظ بجمال شكلها وخضرتها وصمتها.. فحسب، تكتفي بذلك، وتختار لغذائك طعاماً آخر، من دون رائحة، ومن دون أي أثر ملامس.. ومن دون ركوب خطر داهم.. ومن دون أن تنتزع كمامتك، وقفازك. في المنزل تكتشف مرة أخرى أن العالم ما زال بلا رائحة.. ومن دون لمس، فقط العيون تمتلك حرياتها الكثيرة في التعبير.. ولكنه يبقى تعبيراً ناقصاً.