بيروت مدينة عربية عريقة جميلة نموذجية، وذات طابع ثقافي وسياحي مميز ومهم، منذ تاريخ استقلال لبنان عام 1946، ولازالت إلى عهد قريب قبلة السياح العرب والمثقفين والفنانين والأدباء، لخصوصيتها وانفتاحها للجميع وموقعها الجغرافي المتميز ومناخها الجميل الرائع، الذي تتفرد فيه خصوصاً في فترة الصيف. كانت مقصداً للسائح والمثقف والمفكر العربي من كل الجنسيات والقوميات والديانات والطوائف، لمكانتها المرموقة والرائدة في تلك المرحلة الماضية المزدهرة قبل الحرب الأهلية والمنازعات الطائفية والمذهبية. وكانت تصدر الكتب والدوريات والدراسات والصحف والمجلات، وقد أُطلق عليها وصف الرئة التي يتنفس بها العالم العربي في تلك المرحلة الجميلة، نظراً لمقاهيها الكثيرة وصالوناتها الثقافية والفكرية والفنية المتعددة، التي كانت تحتضن الكتاب والمثقفين والإعلاميين والصحفيين والفنانين العرب أيام الزمن الجميل، حين يجلس السائح والمثقف يتصفح على سفح جبل أخضر في الهواء الطلق كتابه المرغوب وروايته المفضلة ومطبوعته الرائدة، وهو يسمع زقزقة العصافير على شجرة الأرز وصوت فيروز الشجي ينطلق من نوافذ البيوت الآمنة.
واليوم أصبحت هذه المدينة الجميلة أشبة بمدن الأشباح أو بالثكنة العسكرية، وبات يغتصبها الأغراب والدخلاء والطارئون عليها.. يتكلمون لغة خشنة متغطرسة ولا يعرفون إلا لغة العنف والإرهاب والبارود والقتل وسفك الدماء. وحين تجلس في مقاهي الحمراء المعهودة على قارعة الطريق في بيروت، تسمع الشتائم والكلام النشاز والألفاظ البذيئة وأصوات منبهات السيارات العالية وأصحاب التكاسي يشتمون بعضهم بعضاً بمفردات سوقية ونابية.. وكل ذلك لم يكن معهوداً ولا مستساغاً من قبل في شوارع بيروت أيام الرخا والتنمية والتطور، حين كانت المدينة نظيفة من هؤلاء وأشكالهم.
واليوم اختلطت أكياس النفايات المتروكة على الأرصفة المتسخة يتوسدها بعض المتسولين وصباغي الأحذية وبائعي السجائر المزورة ومنتهية الصلاحية والساعات الخربة المغشوشة.. يحملها بعض الباعة ذوي وجوه مخيفة وأذرع مرصعة بالوشم وأجساد تحمل رسومات توحي بالعنف والخشونة والتطرف والطائفية.. بعد أن غابت صور فيروز ووديع الصافي من على الجدران ولوحات الإعلانات، حين كانت اليافطات تدلك على وجود حفلة موسيقية غنائية لأحد مطربي لبنان الأصلاء! إن مشهد اليوم في بيروت لا يبشر بخير، ولا يشعرك بأمل في الأفق لبزوق فجر جديد يولد هناك، فجر يرمرم البناء ويداوي الجراح، ليعيد وجه لبنان الباسم والمشرف والمفرح، يستقبل السواح والقادمين من المثقفين والإعلاميين والصحفيين والكتاب الذين يتواعدون لحضور حفلات توقيع رواياتهم وكتبهم في المعرض الدولي للكتاب في بيروت، التي فقدت القرار والدولار في زمن تجار الحروب الذين باعوا الوطن وتنازلوا عن هويته، وارتدوا وشاح الطائفية والمذهبية التي نخرت البلاد وأفسدت تفكير العباد وأضاعت خارطة الوطن وبوصلة هويته، وقد عاث فيها الخونة والعملاء والجواسيس والمرتزقة، وتحول البلد العربي الجميل الرائع، إلى حلبة مصارعة للأغبياء وصناع الحروب!

*كاتب سعودي