ليس العطاء قيمة من القيم العادية، بل هو من القيم التي تُعطي لحياة الإنسان قيمة وأهمية، ولو كانت هذه الجائحة تَتَحَدَّث لما اشتكت إلا من العطاء، وأنها كانت سببا في التكافل بين الناس والتضامن بينهم، فلم يُخْلَق هذا الإنسان ليعيش وحده مُتَنعِّما مُتَرفِّها مُفْرطا في الاستهلاك، مُشْبِعا أنانيته، مرضيا نهمه، دون أن يشارك مع غيره تلك النعم التي مَنَحها الله له.
وقد لا نجد تعبيرا يُقرِّب مفهوم العطاء في شموليته مثل مفهوم الحياة والإنسانية، فالذي يُعطي هو فعلا ينشر الحياة والأمل والحب والسعادة، فهو يعطي بدون حساب، وبغض النظر عن الجنس واللون والدين، وبذلك يكون قريبا من الله ومن الناس، وعن هذه المعاني السابقة يُعبر القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} ففي هذه الآية تقديم العطاء المطلق على التقوى رغم أهميتها؛ لأن العطاء تعبير عن جميع القيم والمثل والفضائل، ففي التقوى رضى الله تعالى، وفي العطاء رضى الناس، ومن جمع بين رضى الله تعالى ورضى الناس فقد تَمَّتْ سعادته.
فدواعي هذه القيمة وأسباب اقتحام هذه العقبة –كما سماها القرآن الكريم- قريبة من كل أحد، فلننظر إلى فيض الله علينا، ولنتأمل في أنفسنا وأنفاسنا، وفي النعم المحيطة بنا، وفيما أغدقه الله علينا من منن الصحة والرزق والأمن، فكل يوم تُشرق علينا الشمس ونتنفس هذا الهواء، ونشرب ذك الماء، فعلينا حقوق تجاه هذ النعم، وهذا ما ينبهنا عليه الحديث النبوي: (كُلُّ سُلامى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ)، فالعطاء بأنواعه ضرورة فردية، ولينفق كل ذي سعة من سعته.
وحتى يكون لنا العطاء ثقافة فلا بد من اكتساب مهاراته، فالعطاء تَمَرُّن وتدريب وتعليم، وأساس ذلك يبدأ من البيت، حينما يرى الطفل ممارسة العطاء ماثلة أمامه يوميا، كما كان عليه حال بيوتنا وأهلينا، فيُعطون من طعامهم ومزارعهم ودوابهم وبيوتهم وأنفسهم وأغلى ما يملكون، فيتخرج من بيوتنا أجيال من المُعْطين تلو أجيال، فقد كانت مهارات العطاء ثقافة متوارثة، ونجد في سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم صورا عديدة وقصصا كثيرة، يُدّرب فيها أهل بيته على العطاء، ويُعَلم صحابته الكرام مهارات هذه القيمة العظيمة، فيقول لعائشة رضي الله عنها: (... مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، أَعْطِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ - عز وجل - عَلَيْكِ)
ومن أجل أن يشارك الجميعُ في العطاء فإن أبوابه كثيرة وصوره متنوعة، حسب قدرة كل فرد، وكلنا قادرون على العطاء، فمن لم يقدر على إعطاء المال، فهو قادر على العمل أو تعليم الناس وتدريبهم، أو التطوع بجزء من الوقت، ومساعدة المحتاجين، وقضاء مصالحهم، حتى الكلمة الطيبة عطاء، والسماحة والعفو والتنازل عن الحق من ألوان العطاء.
وموعد العطاء الذي لا ينبغي أن يتخلف عنه أحد هو وقت الشدائد والأزمات، حين يشح الناس بما يملكون، وتسود الأنانية، ويحرص الجميع على المصالح الشخصية، ولكن أهل العطاء آنذاك يضربون موعدا مع الإيثار، ولا نلاحظ في مجتمعاتهم تلك الصور السلبية كاحتكار السلع، والغلاء والتسابق، والطمع، وأخذ أكثر من حق الفرد، فهم قد يكونون محتاجين إلاّ أنهم يتنازلون عن هذه الحاجة في سبيل إغناء الآخرين، وبهذا وصفهم القرآن الكريم (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)؛ لأنهم يُحسون بالآخرين ويشعرون بحاجتهم، وهذا الإيثار يُهوِّن المصائب مهما عظمت، فالعطاء هنا صورة من صور الانتماء للوطن وحبه، وشعورُ كل فرد بالآخر، وتَحَمُّل المسؤولية، فمسؤولية العطاء مسؤولية مشتركة بين الجميع، وإذا لم نتعاضد وقت الأزمات انهارت المجتمعات، فأهل العطاء وقت الشدائد يتسابقون للبذل ويسارعون للخيرات. ولذا كان الإيثار أعلى مراتب العطاء.
فلنتعلم كيف نجعل للعطاء وقتا ونصيبا من يومنا، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، موظفين ومتقاعدين، فالجميع قادر على العطاء، فنتصدق ولو بدرهم في اليوم، ونتطوع بموهبة من المواهب التي حبانا الله بها، ونعلم الآخرين المهارات التي نُتقنها، ونُدرب أبناءنا على أن يكونوا كرماء، ونكون لهم قدوة في العطاء، ونرفقهم لزيارة اليتامى والمحتاجين، ونزرع البسمة والفرح والطاقة الإيجابية أينما حللنا، ونُعطي لأوطاننا العطاء غير المحدود. بهذا نحقق النجاح والفلاح، ونمنح العالم الحب والحياة، فالذي يعطي هو الذي يحب نفسه أكثر، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمفلحون).
*كاتب إماراتي