ما بال الأمة العربية تتناهبها الذئاب، من كل «لسنٍ وأمّةٍ»، ويتناهشها مجانين المشاريع الاستعمارية الجدد، وتمزّقها صراعات استنبتت من «عَدَم» التواريخ البائدة، والأعراض التقسيمية من مذهبية وإثنية، وترجرج خطير في حدودها حتى الاستباحة وانتقاص سيادتها.
اليوم، جاءنا «زائر» ولا كالزوار، من بلاد جمال باشا الجزار، ومن سلطنة احتلتنا خمسة قرون، تجسد فيها الانحطاط بكل أنواعه، وارتكبت جريمة إبادة مليون أرميني، وقامت بتجويع اللبنانيين، ما أدى إلى موت عشرات الآلاف منهم. كأنه يشبه الجراد.
أردوغان، لم يكتفِ باستحضار إرث العثمانيين وانكشارياتهم في بلادنا العربية، بل استلهم من باب النرجسية والتقليد «بازل» شخصيات مثيلاته القيصرية هنا، والنازية هناك، والصهيونية هنالك، فاقتبس من كل واحدة منها طرفاً يباريهم في طموحاتهم التوسعية الاستيطانية والاستعمارية.
إنه الآن يلعب في ليبيا اللعبة المحظورة يظنها «القرم» الأوكرانية، وفي إدلب يظنها «الجولان»، وفي العراق يظنه «الضفة الغربية»...
كما لو أن هذه أمور تقليدية، سبقه إليها أمثاله من طغاة العصر، ليستميل فئة ضالة يسمونها «حكومة الوفاق» أغراها المنحى التقسيمي، فارتمت في أحضانه، ليس فقط لإدامة هيمنتها على طرابلس، بل ليتوسع بسلاحه ومرتزقته وشذاذ الآفاق، والإرهابيين، و«الإخوان» و«داعش»، و«القاعدة»... إلى الأبعد: كل ليبيا، لاسيما سرت، المفتوحة على كل أوروبا، وعلى خاصرة مصر الغربية... ظنّ أن الطريق مُعبّدة ولا أحد قادر (أو يجرؤ) على مواجهة جنونه، مستهيناً بالمنحى السلمي الذي تعتمد مصر والسعودية والإمارات. لكن، ها هو الرئيس السيسي، يرسم له خطوطاً حمر لجموحه الأعمى: حذارِ! مدينة سرت!
إنه صوت مصر، يعلو عندما يهدد الخطر أمنها وأمن الأمة العربية، صوت مصر الذي التقتهُ السعودية والإمارات والتفت حوله، ليكون اجتماع وزراء الخارجية العرب الطارئ في القاهرة منصة جماعية لمواجهة هذا «المستعمر»: مواجهتان عسكرية (وجيش مصر كامل الجهوزية) وسياسي: الدعوة إلى الحوار والحل السلمي للقضية الليبية، بحسب إعلان القاهرة.
حتى كتابة هذه السطور، تجمد، إلى حد ما، «الوضع العسكري» وكذلك «الحملة على سرت»، هل فهم أردوغان الرسالة المصرية العربية؟ هل يرعوي؟ هل يعيد حساباته؟ من الصعب التكهن، ومن الأصعب التنبؤ بقرارات هذا الرجل، لكن، برغم ذلك، فهو فهم نداء الرئيس السيسي، ويعرف قدرة مصر العسكرية، ويعلم مدى إصرار الجبهة العربية الموحدة الراهنة (مصر، السعودية، الإمارات) وكل مواقفها وردود فعلها. لكن، يحتاج كل ذلك إلى «عقل» سياسي يزن الأمور بدقة، وهذا ما لا يتمتع به أردوغان.
لذا، لا أظن أن أردوغان سيتراجع عن طموحاته بأن يسيطر على كل ليبيا، وقد يبطئ اليوم، تحت هذه الضغوط، لكن سيباشر مشروعه «السلطاني» والتخريبي في ليبيا، والعراق، وسوريا... وكذلك منحاه الابتزازي مع أوروبا. من هنا على الجبهة العربية، استكمال مقومات الصمود والمواجهة، لاسيما وأن رئيس المجلس النيابي الليبي لوّح بطلب تدخل مصر عسكرياً... مما يعني شرعية أكيدة على كل خطوة مستقبلية للجيش المصري العربي.