مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز مبدأ «التسامح» الذي مارسته الولايات المتحدة الأميركية، وأصبح أحد أسباب جاذبيتها التي جعلت المهاجرين من مختلف أنحاء العالم يتقاطرون عليها بالملايين، خاصة من أصحاب المواهب والكفاءات العالية.. أصبحت الدولة الأميركية أعظم إمبراطورية على وجه الأرض، لاسيما من حيث قوتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والسياسية غير المسبوقة في تاريخ العالم.
وقد توالت أحداث وتحولات مهمة أعطت الإمبراطورية الأميركية قوة إضافية جعلتها الدولة الأعظم والأكثر نفوذاً في العالم، مثل صعود النظام الاقتصادي الرأسمالي، وامتلاك القنبلة النووية بفضل علماء الفيزياء المهاجرين، وسقوط الاتحاد السوفييتي الذي كان أكبر منافس للقوة الأميركية، والفوز بسباق «تكنولوجيا المعلومات»، والتمدد العسكري الواسع في جغرافية العالم.. وكلها تحولات جعلت المفكر الأميركي من أصل ياباني «فوكو ياما» يتحدث عن «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».
لكن التراجع عن نهج «التسامح» الذي طبع الحياة الأميركية على مدى عدة عقود، والذي برزت بدلاً عنه العنصرية واللامساواة في المواطنة، جعل الإمبراطورية الأميركية تهتز أمام المظاهرات الغاضبة التي خرجت احتجاجاً على مقتل «جورج فلويد»، المواطن الأميركي من أصل أفريقي، على يد شرطي أبيض في الـ25 من شهر مايو الماضي. وكما رأى بعض المختصين، فإن تلك الاحتجاجات وما صاحبها من تنازلات، لم تكن إلا بداية أعراض الشيخوخة على جسد الإمبراطورية العظمى وروحها. وكان هذا واضحاً منذ مدة، حيث صرّح به الكثير من الدارسين الأميركيين، ومن ذلك، على سبيل المثال، ما قاله المؤرخ الأميركي «أريك هوبسباوم» في محاضرة له بجامعة هارفارد عام 2006، حيث أوضح أنه «بدلاً من أن تقوم الإمبراطورية الأميركية على حفظ النظام والسلام في العالم.. أصبحت تنشر الفوضى والحرب». وأضاف هوبسباوم: «هذه الإمبراطورية سوف تفشل حتماً.. وسوف تحاول المحافظة على وضعها العالمي المتآكل، بالاعتماد على نظام سياسي فاشل وقوة عسكرية لا تكفي لتنفيذ البرامج».
ويتفق مع هذا التوجه «يوهان جالتونج»، عالم الاجتماع النرويجي الذي رُشح لجائزة «نوبل»؛ إذ يتنبأ، هو أيضاً، بانهيار الإمبراطورية الأميركية. وفي كتابه «سقوط الإمبراطورية الأميركية.. وماذا بعد؟»، ينطلق جالتونج مما يعتبره عنف أميركا ومحدودية معرفتها بالثقافات الأخرى، وتشبثها بالنظرة المادية المفرطة، دون اعتبار لثقافات الدول الأخرى، مما أدى داخلياً إلى تراجع دور المهاجرين وصعود التوجهات الفاشية.
لقد استطاعت الولايات المتحدة أن تصنع لها دينامية اقتصادية وسياسية وعسكرية غير مسبوقة، وأن تتحول إلى إمبراطورية أدت إلى بروز أعظم تجمع للثروة وأكبر قوة عسكرية على وجه الأرض، لكنها لم تتعلم من تجارب الإمبراطوريات السابقة، خاصة بريطانيا، ولم تنتبه إلى الخلل الذي أصاب «مبدأ التسامح» والانفتاح النسبي وتعدد الأديان وجاذبية المهاجرين.. فزادت العنصرية، وزادت معها البطالة، وتصاعدت المشكلات الاجتماعية.. فأصبح شبح الشيخوخة يتبدى في كل مكان، منذراً بالتفكك والانهيار.