لم تعرج الكثير من الآراء والتصورات والأفكار التي أطلقت حول التسامح والتعايش على الأدب، كحامل لهاتين القيمتين العظيمتين، ليس قطعاً بطريقة مباشرة، كالتي نسمعها من على منابر الخطب، أو في تصريحات الساسة، إنما عبر مسار يخضع لشروط الفن في الشكل، بينما يكون مضمونه غير المباشر حاملاً وحافلاً بما يعزز الحوار وقبول الآخر، والاقتناع بجدوى تعدد الثقافات والتنوع البشري الخلاق، سواء فيما يرد على ألسنة الشخصيات الروائية، أو ما يبثه الراوي أو السارد من أفكار في ثنايا النص.
أعتقد أن من الروايات التي تحقق هذا، تلك التي كتبها الكاتب المصري سعد القرش تحت عنوان «المايسترو»، والتي احتاج إلى قراءة مصادر معتبرة في نصوص مختلف الأديان وفلسفاتها وتصورات أتباعها، حتى يكون بوسعه أن يقيم حواراً عميقاً بين ممثلين للمعتقد الإسلامي والمسيحي والبوذي وبعض أديان شرق آسيا، ويدعهم يتحدثون بحرية، ووفق ما يسعفه الجنان واللسان لكل منهم، فيخرجون، وهو معهم، بصناعة سياق متماسك يحمل على كتفه حكاية شيقة، تنتقل بنا مكاناً من الخليج العربي إلى وادي النيل، ثم جبال التبت ومروج الهند، وعبر التواصل الإلكتروني، تأخذنا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتغدو وتروح بنا زماناً بين ماضٍ ولى، وحاضر يقيم، ومستقبل متوقع، لتقدم لنا أمثلة وحكايات ودلائل تعزز التسامح بين البشر، على اختلاف العقائد والمذاهب والطبقات والجهات واللغات واللهجات. 
حتى المسار الغرائزي في الرواية يرمي بطريقة غير مباشرة إلى خدمة الفكرة المركزية لها، حين يلعب دوراً في تذويب الفوارق بين المختلفين طبقياً وثقافياً وعمرياً، ليصفوا احتياجاً إنسانياً مشتركاً بوسعه أن يفعل هذا، مثلما سبق أن تنبأ «الطيب صالح» في رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال»، حيث كان بطله يتوقع أن يتسبب هذا المسار في فتح أوروبا بأسرها أمام الأفارقة.
لم يطرح «القرش» الأمر بهذا التصريح المباشر، إنما ترك العلاقة بين أبطاله تنبني على إقناع ومودة، بعيداً عن التصورات المعلبة والخطابات الزاعقة التي تطالب، في إلحاح، بحوار الثقافات والحوارات. فما يدور من سجال، سواء على سطح قارب بسيط يمضي بين اليخوت الفارهة في الخليج بين شباب ينتمون إلى دول وأديان عدة، أو على البريد الخاص على وسائل التواصل الاجتماعي بين شاب مصري وامرأة أميركية، أو عبر النقولات والاقتباسات والإحالات التي يدمجها الكاتب في نصه بنعومة شديدة، صانعاً منها، وفي اقتدار، سبيكة واحدة تقول: كلنا واحد وإن اختلفنا.
هذه الرواية تبرهن، بحق، على أن الأدب بوسعه أن يؤدي ما ليس لغيره أن يفعله حيال قضية التسامح والتعايش، فالنداءات التي جاءت في ركاب هذا أتت جلها من علٍ، فكانت قضية حكومات أو نخب فكرية، بينما هنا في هذه الرواية، وهي مثال لما يمكن للأدب أن يقوم به، يجري النقاش حول هذه القضية، وبطريقة غير مباشرة، بين شخصيات تقع على هامش المجتمع، لكنها في النهاية تمثل كل أولئك الذين، إما أن يقوم على أكتفاهم أي حديث نخبوي عن التسامح، أو ينهدم وينقض بشكل جارح وبارح.
كان الكاتب نفسه، بما هو مقتنع به من أفكار، وراء أبطال روايته، يمدهم بما تيسر له من قراءات متعددة في مختلف الاعتقادات والثقافات، لكنه لا يضع الكلام على ألسنتهم، إنما يترك لكل منهم حرية التعبير عما يريد، ولكي يخليهم من قيود وقواعد مفروضة على الخدم والعاملين لدى الغير والسياح غير المقيمين، جعلهم يلتقون في طقس يحررهم من كل حسابات، وكأنه يقول إن القيود والكوابح التي تكبل الإنسانية، وتمنع كل فرد من قبول كل مختلف عنه، هي بنت الوعي المريض الذي غذته ثقافات وتجارب تعمق النفور والكراهية، ليبقى على الإنسانية أن تكافح بإصرار، كي يهل ويحل التسامح مع الوعي واليقظة التامة، بعيداً عن أي مؤثرات للتغييب، ويجد من الأنصار من يدافعون عنه لينقلوه إلى درجة الانصهار التام، لتحل السكينة في النفوس، ويخرج العالم من مأزق النبذ، والابتعاد الكريه، والعنف، والتشفي.

روائي ومفكر مصري