(إلى روح هشام الهاشمي، سيرحلون ويبقى العراق وأنت أحد تفاصيله الحاضرة).. تتمثل قمة ازدراء التيارات الإسلاماوية (الشيعية والسنية) للعقل في اغتيال الأقلام من فرج فودة، وصولاً إلى هشام الهاشمي، ولا تشفع أرض لبنيها عند تسيد الإسلاماويين للمشهد السياسي الاجتماعي. فإنْ عجز الترهيب والتكفير في كسر الأقلام، فإن الرصاص المكتوم أو النحر بالسكين هو خيارهم الأخير. هي لم تبتدع هذا المبدأ، إلا أنها أول من وظفه في حسم خلافاتها الفكرية أو السياسية، ومرجعيتها واحدة، فهي الوصية، باسم الله، على عباده والحارسة للفضائل.
ليس الفراغ السياسي وحده ما يفضي إلى حالة الدولة الفاشلة، أو ما اصطلح عليه عراقياً «اللادولة»، بل حتمية غياب ثقافة الدولة والإرادة المجتمعية. الوعي وتأصل ثقافة الدولة، هو ما حَصن تونس من مغبة الانزلاق لحالة اللادولة، فأنتجت دستوراً يعتبر الأرقى انسانيا على مستوى العالم العربي والاسلامي. تحصين الهوية الوطنية من مخاطر الانشطار طائفياً أو عرقياً، يجب أن يتحول إلى الهدف الاستراتيجي الأول تشريعياً، إن أردنا تحصين دولنا أو محيطها من التحول إلى اللادولة، أو الانتقال إلى حالة الفشل الإكلينيكي اجتماعياً، والأمثلة كثيرة. التسامح مع تطاول الإسلاماويين على التعريف بمحددات الهوية الوطنية للدولة والمواطنة، هو ما قاد إلى الحال التي يرزح تحتها العراق ولبنان، ولم تكن الحال بأفضل في الدول، التي سيطر، أو ما زال يُسيطر عليها تيار «الإخوان»، سياسياً أو اجتماعياً.
العراق لم يكن التجربة الأولى، لكنها الأقسى بعد أن أثبت ذاك الشق من مدرسة بعث القومية العربية، والذي لا يختلف، من حيث المعطى النهائي، عن مشروع إحياء الأمة الإسلامية، الذي ابتدعته التيارات الإسلاماوية، فالمحصلة واحدة، إنْ قورنت من حيث استبخاس الأرض والأرواح. سياسياً، قد ننجح في احتواء هذه التيارات لبعض الوقت، إلا أن التحصين الحقيقي للدولة والمجتمع يتأتى من تحصين الهوية الوطنية غير القابلة للقسمة طائفياً، وعرقياً أو عقائدياً. 
كلنا، اليوم، يرغب في إيقاف عبث هذه التيارات بتاريخنا الاجتماعي، إلا أن المسار الواجب الاتباع في ذلك، هو ما أسست له النائب عبير موسي من خلال جلسات البرلمان التونسي، وقضائياً خارج قبة البرلمان. وموسي تعي كلفة موقفها، فقد سبق للتيار الإسلاماوي أن اغتال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إلا أن تونس اليوم، ليست تونس الأمس، رغم التحديات. نجاح موسي (الحزب الدستوري الحر) والكتلة البرلمانية المتعاطفة في استئصال حركة النهضة (ذراع الإخوان المسلمين في تونس) من المشهد السياسي وطنياً، لتعارض ما تمثله الحركة ومبادئ أصيلة في الدستور التونسي.
هشام الهاشمي، رحمة الله عليه، لن يكون آخر ضحايا هذه التيارات اللاإنسانية، إلا أن افتراض هذه التيارات أن ذاكرة الوجع لدينا أقصر من ساعات اليوم الواحد، هو ما يجب أن يتغير في حساباتها. وإن كان أمر خروجنا للشوارع، احتجاجاً على تلك الجريمة، نتيجة جائحة كورونا المستجد، إلا أن مؤسساتنا الوطنية، الرسمي منها والمدني، قادرة على تمثل ولي الدم، أدبياً وسياسياً، في هذه الجريمة، والمطالبة بمحاسبة الدولة التي تقف وراء العملية، قبل قاتليه، هذا واجب إنساني للرد على هذه الجريمة.
الرأي العام العربي ليس مصاباً بـ«فوبيا التيارات الإسلاماوية» بشقيها الشيعي والسُني، بل يستشعر خطرها الحقيقي، فهو اليوم أمام استحقاقات مستقبله، بدلاً من أن يبقى مُتأرجحاً بشكل عبثي في الفصل بين ماهية الإسلام، وما تمثله عقائد تلك التيارات الثيوقراطية الجاهلة. رفض كل أشكال الوصاية الروحية، هو واجب الجميع من الآن فصاعداً، ويجب أن نحرر عقول أطفالنا مُنذ الفطام من كل إرث وثقافة تلك التيارات، ولتكن هويته الوطنية زاد مستقبله. وحبذا لو حولنا جدران المدارس إلى جداريات تحكى جرائم هذه التيارات عبر العصور، وتحكي كم سرقت من تاريخنا الاجتماعي والإنساني على امتداد الجغرافيا العربية والإسلامية.
*كاتب بحريني