هل بدأ الانتحار يتحول في لبنان من ظاهرة فردية إلى جماعية؟ وهل استعار من كورونا «وسائر الأوبئة» عدوى انتشاره في العقول والنفوس والأجسام؟ بل هل سيُسرّع الانهيار الاقتصادي والمعيشي، ومعه انهيار النظام والدولة والسلطة «الشرعية»، هذه الظاهرة؟ الأجوبة غير حاسمة. حتى الآن انتحر ستة أشخاص من جميع الأعمار «في العشرين والأربعين والثمانين»، بينها انتحارات علنية بصب بنزين على الجسم، وأخرى بين الجدران.
لكن، من كل هؤلاء الأشخاص الذين وضعوا حداً لحياتهم يبقى آخرهم، أي «علي الهق»، الاستثناء في اختيار المكان والطريقة والرسائل المتعددة التي تركها.
لقد أراد علي الهق، وبكل وعي وجهوزية، أن يكون انتحاره العلني مشهدياً، وقد ينتمي إلى العرض المسرحي بكل مراحله: أولاً موقعه أمام مسرح المدينة على الرصيف وسط شارع الحمراء، ثانياً، توقيته ظهراً عندما يكون الشارع مكتظاً بالناس وبالسيارات والمقاهي والمحال. وككل مسرحية، جهّز علي، إضافة إلى المكان والزمان، السينوغرافيا والأدوات الأخرى. والرسالة الخاصة والعامة التي يحملها موته بمثابة وصية. لم يبث المضمون على الطريقة البريشتية الملحمية الوعظية، ولا على الطريقة العبثية المجانية: بل بكلمات، بضع كلمات، وما يشبه الوثيقة الشخصية: «لبنان سيداً حراً مستقلاً»، و«أنا مش كافر لكن الجوع كافر». الأولى تعبير عن إعلان خروجه عن كل انتماء مذهبي ضيق (هو شيعي من بعلبك، حيث تسيطر ميليشيات «حزب الله») إلى ولاء مطلق للبنان أي بالدولة اللبنانية الشرعية غير الميليشياوية. هذه الكلمات تُحيله على الحراك الذي يرفع مثل هذه الشعارات. أما الثاني، فتعبير عن حاله: ضاقت به السبل، وسُدّت الأبواب دونه، وعانى الجوع، وهذا ما بدأ يُعانيه كثير من اللبنانيين. إنها رسالة فردية واجتماعية ووطنية. أما الوثيقة التي تركها فهي سجله العدلي النظيف، وهذا يشير إلى كونه مواطناً صالحاً، تحت سقف القانون، والسلم الأهلي. لكن تبقى المشهدية المسرحية: وقف علي وحده على الرصيف. نظر حوله مرات، وإلى السماء مرات، وإلى يديه، وملابسه، ثم أدار رأسه نحو الطريق العام. ربما أحس بشدة وحدته. وربما تذكر بعض الوجوه التي أحبها. تخلى العالم كله عنه، (والانتحار لحظة تخلّ) سحب ورقة من جيبه مسّدها بكفه ثم رفع رأسه كأنما آخر مشهد تراه عيناه. شجرة كبيرة أمامه، خضراء مزهرة (يا للتناقض)، نظر حوله من جديد. حتى الآن لم يلفت وجوده. نظر أحدٌ من المارّة. عندها راح يتمدد على الرصيف، ببطء، وبحركات متدرجة. حدق في السماء الزرقاء الواسعة للمرة الأخيرة ثم سحب من جيبه الخلفي مسدسه، وبهدوء غطّى وجهه وعينيه بوثيقة سجله العدلي، هنا انتبه المارة إليه بهلع: بعضهم تراجع، وآخرون اقتربوا بحذر، لكن هنا بالذات، في هذه اللحظة القاطعة، أطلق رصاصة على رأسه، تفجّر الدم حوله، سال على ملابسه، ثم تجمّع قربه بلونه الأحمر. «رحمه الله». اكتملت المشهدية، مات البطل التراجيدي، انتهى العرض المونودرامي (الممثل الواحد) الذي قُدم خارج المسرح التقليدي المغلق في القاعات، اختار «المسرح خارج المسرح» والجمهور الخاص الذي بدأ يتجمع حول جثة علي التي بقيت مكانها أربع ساعات دون أن تأتي سيارة الإسعاف لنقلها.
هل اختتمت المسرحية؟ إنها غنية بدلالاتها. من يدري؟ 
لكن انتحار علي، سواء بتلك الطريقة أو سواها، ليس هو الحل المثالي، ولا يمكن أن نواجه ما نواجهه في لبنان، باليأس. وإنما بالأمل والحياة.