قال لنا نائب بيروت نهاد المشنوق، وزير الداخلية السابق، في اجتماع «حركة المبادرة الوطنية»، يوم 5/ 8/ 2020: لأول مرة منذ أيام الفينيقيين، ما عادت بيروت تمتلك مرفأً، ما عادت مدينةً بحرية!
نحن اللبنانيين، بعكس العرب، انقسمنا على بيروت. فأهلُ بيروت، وهم خفيضو الصوت لقلة الكتّاب والإعلاميين بينهم، ظلُّوا بالطبع على ولائهم لها. أما الريفيون الواردون إلى بيروت (وبينهم سُنّة بالطبع)، فإنّ مثقفيهم أقبلوا في مقالاتهم ورواياتهم على التظلُّم من بيروت، باعتبارها مدينةً بلا قلب. ففي لبنان، بل وفي سوريا من أيام «البعث»، ما عادت هناك في بلاد الشام والعراق مدينةٌ غير بيروت. المؤدلجون من المثقفين، لبنانيين وغير لبنانيين، ممن غادروا بغداد ودمشق، واستقروا واشتهروا في بيروت، اعتبروا بيروت رمزاً حياً لكل ما فقدوه في بلدانهم، فما ذكروا دمشق وبغداد وحلب بسوء، بل رمزوا أو صرَّحوا بالسخط على بيروت كأنما كان جمالُها يؤذيهم، كما قال نزار قبّاني! أو كما زعم آخرون منهم أنّ «الثروات» التي تجمعت ببيروت، إنما جاءت من فلسطين وسوريا والعراق ومصر على التوالي، بعد حصول النكبات والانقلابات في تلك البلدان. أشهر الساخطين على بيروت باعتبارها «المدينة» في المشرق كلّه، كان الشاعر الكبير أدونيس (علي أحمد سعيد)، وهو علوي الأصول، وصار في شبابه قومياً سورياً، ثم اعتنق الحداثة المطلقة، المتنكرة للعروبة ثم للإسلام. وقد دخل في فئة الشعراء المتنبئين في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وما كان معروفاً السبب الحقيقي لصبّ أدونيس اللعنات على بيروت باعتبارها بابل، حتى عندما تاب الآخرون عن لعنها وندموا عندما اجتاحها الإسرائيليون عام 1982 فاحسُّوا بالفقدان. وهو السخط الذي استمرّ لدى أدونيس وشباب الشعراء والروائيين من أنصاره في لبنان وسوريا ومصر إلى التسعينيات وما بعدها. إنما عندما هاجر أدونيس إلى باريس بالتدريج في الثمانينيات، صارت مقاربته أكثر وضوحاً، إذ عاد إلى نظريته القديمة في رجعية السنّة وتقدمية الأقليات، والظاهر أنه لا يزال يعتبر بيروت مدينةً سنيةً، رغم أنّ نصف سكانها ما عادوا كذلك! 
معظم العرب في الخليج، حتى المثقفين منهم من قوميين ويساريين، ما نظروا إلى بيروت لجهة الأصول الدينية أو المذهبية، بل نظروا إلى الرحابة والسلام، والتعليم الراقي، والمستشفى المتقدم، والحريات الشخصية، والصيف الوادع والشتاء المنعش. وكثيراً ما سمعتُ من عشراتٍ منهم لوماً للبنانيين على تنكرهم لبيروت ولبنان. وقد شهدتُ هذا التلهُّف الهائل والعميق على بيروت ولبنان من سائر الخليجيين، مسؤولين ومثقفين، في مناسبتين: الغزو الإسرائيلي عام 1982، ومقتل الرئيس رفيق الحريري عام 2005. ونحن نعرف، وإن أنكر آخرون، أنهم بادروا ودعموا لبنان في كل المناسبات، سياسياً ومالياً وتنموياً. وقد عمَّروا البلاد مراراً، آخرها عام 2006-2007 بعد حرب «حزب الله» مع إسرائيل. وقد شعرتُ بالفجيعة في أصواتهم وتصرفاتهم عندما احتل «حزب الله» بيروت عام 2008.
لا ينبغي أن يُنكر أحدٌ منا أنّ المواقف العاطفية والسياسية من جانب العرب، حتى غير الخليجيين منهم، تغيرتْ تجاه لبنان، وضمنه بيروت، في السنوات العشر الأخيرة. فقد شنّ زعيم «حزب الله» من ضاحية بيروت حرباً على العرب أشدّ من حربه على إسرائيل، بل زعم علناً أنّ الحرب في سوريا أهمّ من الحرب على إسرائيل، ثم صارت الحرب باليمن أهمّ أيضاً من الحربين الأولى والثانية. أيقظني صحفي مصري في السنوات الثلاث الأخيرة مرتين على مشارف صلاة الفجر: مرة ليبلغني أنّ الإيرانيين باسم الحوثيين أطلقوا صاروخاً بالستياً على مكة المكرمة، وفي المرة الثانية قال لي: إنّ إيران (أو ميليشياتها بالعراق) أطلقت صواريخ على المرافق النفطية السعودية. وما بقيت إهانةٌ ولا إثارةٌ ولا إضرارٌ، إلاّ وأنزله وكلاء طهران في لبنان والعراق وسوريا بالعرب وبأهل الخليج ومسؤوليه. وعرب الخليج بشرٌ من جهة، ومسؤولون عن أمن بلدانهم التي يهاجمها أهل السلاح وأهل الكراهية، وتنطلق الحملات كلها من ضاحية بيروت.
في المصيبة الكبرى الأخيرة على بيروت، غلب على العرب الأقحاح، في الخليج وغير الخليج، النواح على بيروت ولبنان. والأمل الآن أن يساعدونا بعد أن انكشف أهل السلاح وأهل الكراهية، على استعادة بيروت ولبنان.. «والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون». 

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت