هذه الكارثة أكبر بكثير من أن يحتملها لبنان. أقل من قنبلة نووية، لكنها حملت المآسي إلى كل بيت قريب من بؤرة الانفجار، وإلى بيوت بعيدة عنها. هذه المرّة لا يمكن التعويل على روح المبادرة الشهيرة لبنانياً لأن الأزمة الاقتصادية كانت أفلست الناس، وضربت القطاع الخاص وشلّت قطاعاً عاماً متواضع الأداء أصلاً، قبل أن تحلّ النكبة الجديدة. آلاف المؤسسات والشركات كانت تعمل من خلال مرفأ أنشئ قبل أكثر من مئتي عام للصيادين وراح يكبر ويتطوّر منذ منتصف القرن الماضي، ليغدو العصب الرئيس شبه الوحيد لمجمل الاقتصاد اللبناني، وها هو يمحى من خريطة موانئ شرقي المتوسّط. لا شك في أنه سيعود ولو طال الوقت، لكن كيف وبأي تمويل وأي ضمانات أمنية وسياسية. وهناك من يتساءل: «نعم سيعود، لكن إلى أي لبنان؟».
لم تذهب ردود الفعل الغاضبة في أي اتجاه آخر غير الدولة ورموزها، إذ كانت فئات المجتمع بلغت بمعظمها درجة اليأس النهائي من «منظومة السلطة» بعدما أدركت أن ودائعها وحصيلة أعمارها ضاعت في الهندسات المالية والمصرفية، لكنها لم تتصوّر أن الإهمال والتهاون والفساد يمكن أن تصل إلى حدّ المجازفة بمثل هذا القتل، بمثل هذا الدمار الشامل. لذا سقطت كل الاعتبارات والقيود أمام «دولة» ليس لها من الدولة سوى اسم بلا معنى ولا فاعلية. وكان بالغ الدلالة أن عواصم العالم المتضامنة مع لبنان حرصت على أن تكون مساعداتها الإنسانية موجهة مباشرةً إلى الشعب، بل إن الأكثر تعبيراً كان أولئك الشبان والشابات الذين ناشدوا ايمانويل ماكرون ألا يقدّم أي مساعدة مالية إلى «سلطة فاسدة»، وقد وعدهم بالّا يفعل.
بدا الرئيس الفرنسي خلال وجوده في بيروت المنكوبة كأنه الدولة البديل، يريد أن ينقذ ويساعد، لكن أحداً لا يستطيع إسعاف جريح إذا لم يبدِ استعداداً لفعل ما يجب كي يُعالَج ويبرأ. قال للجميع إن عليهم أن يتغيّروا ويغيِّروا سلوكهم وسياساتهم وإلا فإن الأزمة الاقتصادية وانفجار مرفأ بيروت يهدّدان البلد بالغرق المحتّم. ومن الواضح أن المجتمع الدولي ألزم نفسه بإنقاذ الشعب ومنع انهياره بالجوع أو المرض أو حتى بنقص التعليم، أما إعادة الإعمار، فلا بدّ أن تكون مقننة ومشروطة، فليست هناك جهة واحدة يمكن أن تساهم فيها، خصوصاً في إعادة بناء المرفأ، ما لم تكن هناك ضمانات صارمة بأنه لن يكون بعد الآن تحت سطوة «حزب الله» وسلاحه.
وكما أن الداخل والخارج أكدا عدم ثقتهما بمنظومة السلطة في أي مجال، بسبب الفساد وسوء الإدارة، وبالأخص بسبب هيمنة ذلك «الحزب» عليها. كذلك كان هناك عدم ثقة مسبق بالتحقيق الذي طلبته لتحديد أسباب الانفجار. وبطبيعة الحال هناك مخالفة فادحة حصلت بإبقاء نحو ثلاثة أطنان من نيترات الأمونيوم في المرفأ، فهل يكشف التحقيق الجهة المستفيدة من تخزينها؟ وهل يتطرّق إلى وجود معدّات عسكرية لـ«الحزب» أدى تفجّرها إلى إشعال تلك المادة الكيماوية شديدة الانفجار؟ والأهم هل يتوسّع التحقيق إلى فرضيات عمل عسكري خارجي، يفترض أنه إسرائيلي، تسبّب بهذه الكارثة. كان وجود نيترات الأمونيوم سرّاً، إذ تداولته الأوراق الإدارية محذّرةً من خطره، لكن إهماله جعل منه «قنبلة» موقوتة تنتظر من يمدّها بالصاعق، وقد حصل.