مرحلة ما بعد الانفجارين المهولين اللذين هزا بيروت الأسبوع الماضي تُظهر أن المجتمع المدني اللبناني ليس حياً وبخير فحسب، وإنما دينامي وملهم أيضاً. كما تعيد التأكيد على أن بنية السلطة اللبنانية محطمة ومختلة، ربما لدرجة تستعصي على الإصلاح. غير أن المأساة يمكن أن تفرض إصلاحات على الأوليغارشية المتجذرة في البلاد. 
بيروت، التي دُمر جزء مهم منها الثلاثاء قبل الماضي بفعل انفجار 2750 طناً من نترات الأمونيوم، شرعت في عملية التنظيف وإعادة البناء البطيئة. ولكن الوكالات الحكومية لا تكاد تُرى على الميدان. 
وبالمقابل، كان المجتمع المدني اللبناني في مستوى الآمال المعقودة عليه، حيث انكب آلاف المتطوعين على نقل الحطام والأنقاض، وتقييم الخسائر، وبدء عملية استعادة الحياة العادية. البعض منظمون، ولكن الكثيرين مجرد مواطنين يقومون بما هو ضروري لأنهم يدركون أن حكومتهم لن تقوم به. 
الغضب العام كبير. ومن الواضح أن الحكومة كانت على علم بالمخزون الضخم من المواد الكيماوية المتفجرة الخطيرة التي كانت تُخزن في مستودع وسط المدينة. فقد قُدم تقرير حكومي داخلي للرئيس ميشيل عون ورئيس الوزراء حسان دياب في يوليو الماضي، موضحاً هذا الخطر، ومتنبئاً بدمار جزء كبير من المدينة في حال وقوع انفجار. 
يوم الاثنين الماضي، استقال «دياب» وكامل حكومته. وهذه هي الحكومة الثانية التي تسقط بسبب الغضب العام منذ بدء المظاهرات الشعبية الضخمة المطالبة بالإصلاحات في البلاد في أكتوبر الماضي. 
ومنذ ذلك الحين، أصبحت أزمة لبنان الاقتصادية كارثة شبيهة بالأزمة التي ألمت بفنزويلا، حيث الأطراف الحاكمة عاجزة عن تبني موقف موحد إزاء حزمة إنقاذ مالي بقيمة 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. وواصل فيروس كورونا الانتشار، واليوم تضرر جزء كبير من العاصمة أو دمر.
الاستقالات الأخيرة لن تصلح الأمور. وعلى كل حال، «دياب» سيبقى من أجل تصريف الأعمال، ومعظم الوزارات إما تعمل أو لا تعمل، وهذا هو الغالب – بغض النظر عمن يوجد على رأسها شكلياً. ولكنها تعبّد الطريق في الواقع أمام البلاد من أجل التفاوض حول فصلها السياسي التالي. 
المجتمع الدولي استجاب لمحنة لبنان. فقد تعهد مؤتمر دولي للمساعدات نظّمته فرنسا يوم الأحد بـ300 مليون دولار من الدعم الإنساني عقب الانفجار، وشرعت الأمم المتحدة في إرسال شحنة كبيرة من الدقيق من أجل سد الاحتياجات الفورية من الطعام. كما عرض صندوق النقد الدولي حزمة إنقاذ مالي جزئية -مال مقابل إصلاحات اقتصادية- ولكن دوائر الحكم اللبنانية ترفض قبول حتى أبسط الطلبات. 
وفي الأثناء، يشدد المواطنون على ضرورة أن تمر كل المساعدات عبر المنظمات غير الحكومية، وذلك حتى لا تتم مكافأة اللاعبين السيئين الذين يهيمنون على مؤسسات الدولة. وهذه مقاربة جيدة على المدى القصير على اعتبار أن من شأنها أن تعزز المجتمع المدني اللبناني وتزيد من احتمالات أن تذهب المنح لمساعدة المحتاجين بالفعل.
ولكن على المدى الطويل لا يمكن تجنب مؤسسات الدولة. فلا أحد غيرها يستطيع التفاوض مع صندوق النقد الدولي أو تدبير البنية التحتية الأساسية مثل الكهرباء والصرف الصحي والطرق. 
غير أن المشككين يحذّرون من أن أي دعم للدولة اللبنانية هو دعم بحكم الواقع لـ«حزب الله». فمنذ أكتوبر الماضي، باتت الحكومة، بما في ذلك عون ودياب، تتألف بشكل كامل من حلفاء المنظمة المدعومة من إيران التي تبقي على جيش خاص بها. 
ومع ذلك، فإن الدولة اللبنانية فقط تشكّل بديلاً ممكناً لهيمنة «حزب الله» على كل البلاد. وهناك أمل في هذا البديل. وبتفجيرها غضباً شعبياً وحصولها على اهتمام دولي، خلقت المأساة فرصة لتشكيل نظام سياسي جديد، يستطيع خدمة المجتمع اللبناني وتعبئته. 
وفي نهاية المطاف، هذا يعني انتخابات أو محفلاً وطنياً آخر لخلق اتفاق جديد – اتفاق يقوّي الجمهور بدلاً من أن يقوي زعماء البلاد ، ويعزز التمثيل المباشر بدلاً من أن يعزز التمثيل الطائفي، ويُخضع منظمات مثل «حزب الله» للمحاسبة. 
مثل هذا الاتفاق يمكن أن يستند إلى اتفاقات لبنانية لم يتم الوفاء بها مثل اتفاقية الطائف، وإعلان بعبدا، وأجزاء من الدستور – وجميعها تشير إلى نظام غير طائفي أكثر قابلية للمحاسبة لا يوفّر غطاء للمجموعات المسلحة والدسائس الأجنبية. 
ورغم كل ميزاته المبهرة، إلا أن المجتمع المدني اللبناني لا يستطيع تحقيق هذا التغيير بمفرده، نظراً لأن الوضع الراهن يخدم مصلحة من يملكون المال والسلاح. ولهذا، ينبغي على المجتمع الدولي أن يتعاون معه في إرغام النخبة الحاكمة في البلاد على الاعتراف بالحاجة إلى إصلاحات. 
وفي هذا الصدد، ينبغي على المانحين أن يربطوا أي مساعدات إضافية بشرط إجراء تحقيق دولي في ما حدث في المرفأ، ولماذا كانت نترات الأمونيوم مخزنة في وسط مدينة ذات كثافة سكانية مرتفعة، وما الذي سبّب الانفجار. 
الحكومة المدعومة من «حزب الله» رفضت مشاركة بلدان أخرى في التحقيق. ومن المعروف أن الحزب يهيمن على معظم المنافذ ونقاط الوصول المهمة في لبنان، بما في ذلك المنطقة التي وقع فيها الانفجار من المرفأ. ولكنه ولسلسلة من الأسباب المعقدة، بما في ذلك انفجار الأسبوع الماضي، بات ضعيفاً بشكل متزايد. وهذا من المحتمل أن يزداد أكثر عندما تصدر الأحكام في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005 عن محكمة دولية في 18 أغسطس الجاري. إذ من المحتمل أن يدان أربعة من كوادر الحزب في هذه القضية. 
بين حزمات الإنقاذ المالي والمساعدات وإعادة البناء التي أعقبت الانفجارات، وتداعيات أي أحكام بالإدانة في قضية قتل الحريري، والأهم من ذلك كله، الغضب العام اللبناني العارم والمتواصل... من الواضح أن لبنان في حاجة إلى ميثاق وطني جديد. وقد يفلح في الحصول عليه من بين كل هذه المآسي.
*زميل «معهد دول الخليج العربي» في واشنطن 
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»