تتسلّط الأضواء على شرق المتوسط باعتباره إقليماً يتصاعد فيه التوتّر، وفي كل الوقائع التي تلامس خطر اندلاع مواجهة عسكرية تناور تركيا عند حافة الهاوية، شاهِرةً بطاقتها الأطلسية ضد اليونان وهي أيضاً عضوٌ في «الناتو»، مستغلّةً مرحلة تقاطع مصالح مع الولايات المتحدة، ولاعبةً على انقسامات أوروبية وخلافات عربية. استخلصت تركيا من تجربتها السورية نهجاً هجومياً لا يخلو من مجازفة لتحصيل نفوذ ومكاسب، واستثمرت علاقاتها مع «الإخوان» وباقي الجماعات الإرهابية الأخرى لإظهار نفسها كـ«خلافة» جديدة، فوصلت إلى داخل الصراع الليبي وواصلت الانسلال في أزمتي اليمن ولبنان. غير أنه نهج لن يجدي، إذ يغامر خارج الصراعات المشتعلة ليغدو مصدراً لعدم الاستقرار عند أطراف أوروبا وعلى المستوى الدولي. 
في يوم واحد خلال الأسبوع الماضي كانت بغداد ترفض استقبال وزير الدفاع التركي غداة مقتل ثلاثة عسكريين عراقيين من حرس الحدود بقصف تركي لا مبرّر له. وكان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي يبلغ السفير التركي في الرياض استنكاراً خليجياً لتهديدات أنقرة للإمارات. وكانت فرنسا ترسل قِطعاً بحرية ومقاتلتين جويتين إلى قبرص كخطوة رمزية لكنها تحذيرية لئلا تذهب أنقرة بعيداً في تنمّرها على أثينا ونيقوسيا. وفي اليوم التالي حدث صدام بين فرقاطتين يونانية وتركية، ومع أنه مضى بلا خسائر إلا أنه ينذر باحتمالات خطيرة إذا تكرّر. وفي الأثناء كانت وساطة ألمانية تحاول، مدعومةً من الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، احتواء الخلاف بالحوار، كما كانت مختلف الأطراف تعول على لقاءات لوزير الخارجية الأميركية مع نظيريه التركي واليوناني.
وتعود أسباب هذا الاستفزاز التركي إلى أعوام خلت، وعنوانها الغاز والنفط اللذان يتوفّران في مياه قبرص واليونان، فضلاً عن مصر وسوريا ولبنان وليبيا وفلسطين وإسرائيل، لكن لا أثر لهما في المياه الإقليمية التركية. وحين تأسس «منتدى غاز شرق المتوسّط» مطلع 2019 بتنسيق أميركي، ثارت ثائرة أنقرة على ما اعتبرته تهميشاً لها وضربة لخط أنابيب «ترك ستريم» بين روسيا وأوروبا. لذلك راحت تضغط لفرض نفسها على «المنتدى» بغية نيل حصة من الطاقة، فطرحت مسألة «حقوق قبرص التركية» غير المعترف بها دولياً واستجابت قبرص (اليونانية) باقتراحات لإنصاف المناطق والمواطنين كافة، لكن أنقرة رفضتها لأنها لا تعترف بأنهم «أتراك». وفي إطار ضغوطها وقعت تركيا اتفاقات مع «حكومة الوفاق» في طرابلس لترسيم حدود بحرية وهمية بين الدولتين مدّعيةً بأن الجرف القاري يمنحها «حقوقاً» وأن المساحة الشاسعة بين شواطئ البلدين هي «منطقة اقتصادية خالصة» تسمح لها بالتنقيب عن الغاز.
وفي الحالتين قدمت تركيا مفاهيم مطاطة وغير قانونية لـ«الجرف القاري» ولـ«المنطقة الاقتصادية الخالصة»، ولا يمكن تطبيقها إلا بالهيمنة السياسية والقوة العسكرية اللتين تحاول فرضهما على المنطقة المتنازع عليها مع اليونان، وهو ما لا يمكن قبوله أوروبياً ولا أطلسياً. في الأثناء كان اتفاق ترسيم الحدود البحرية الواقعية بين مصر واليونان قد أدّى عملياً إلى جعل اتفاقات أنقرة -طرابلس لاغيةً، فلم يبق منها سوى تغطية واهية للتدخّل في الصراع الليبي. وحتى هذا التدخل تحكمه ضوابط واشنطن، فهي دعمته لإحداث توازن مع روسيا، لكنها لجمته عند نقطة سرت. لذا فإن الهياج التركي في شرق المتوسط يحتاج إلى ترويض أميركي أطلسي قبل أن يرتكب حماقة عسكرية.