يبدو أن الطيار التركي الذي أسقط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015 على الحدود التركية السورية، لم ينه حياةً واحدةً فقط كانت على متنها، وإنما أنهى كذلك مرحلة تاريخية استمرت لأكثر من 70 عاماً.
كلنا نعرف كيف كان شكل العلاقات بين موسكو وأنقرة خلال العقدين الماضيين، وكلنا نتذكر الزلزال الذي أصابها هذه العلاقات بُعيد الحادثة، وكيف ساءت الأمور بين البلدين بشكل كبير جداً، ابتداءّ بالتراشق الدبلوماسي العنيف، وانتهاءً بالمقاطعة الاقتصادية الكاملة. وكلنا نتذكر كيف عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يونيو 2016 بشكل مفاجئ، ليعزي شعب روسيا في وفاة الطيار، ويعتذر عن الخطأ غير المبرر الذي أدى لإسقاط الطائرة، كانت روسيا وتركيا تتموضعان في منطقة سياسية معينة، وانتقلتا بعد يونيو 2016 إلى منطقة أخرى ذات طبيعة مختلفة ومناخ مختلف.
كانت العلاقات بين البلدين قبل إسقاط الطائرة تعمل على ثلاثة مسارات، المسار الأول يتمثل في العلاقة الثنائية المباشرة بين البلدين، والقائمة في أغلبها على تفاهمات اقتصادية، تتقاطع بين الحين والآخر مع نقاط تماس سياسية قليلة غير ذات تأثير على المشهد العام للعلاقات بين البلدين، والمسار الثاني هو علاقة حلف «الناتو» بروسيا ودور تركيا في هذا الحلف، والمسار الثالث هو اشتباك البلدين بشكل غير مباشر في عدد من قضايا المنطقة وتباين مواقفهما من هذه القضايا.
وكل هذه المسارات الثلاثة تغيرت بزاوية مائة وثمانين درجة تقريباً بعد الاعتذار الشهير لرجب طيب أردوغان، فالعلاقات الاقتصادية أخذت بعداً أكبر، والاتصالات الدبلوماسية بين البلدين تضاعفت عشرات المرات عن ذي قبل، وتمردت أنقرة في المسار الثاني على أدبيات «الناتو» التاريخية، وأعلنت عن تزويد منظومة الدفاع الجوي الخاصة بها بصواريخ «إس 400» الروسية، مخترقة بذلك تاريخاً طويلاً من «المواجهة الصامتة» بين المعسكرين الغربي والشرقي، ومتحللة بشكل أو بآخر من بعض واجبات التحالف مع بقائها عضواً يتمتع بكامل الحقوق، وأما المسار الثالث فتحولت فيه الدولتان إلى كيانين متفاوضين على الدوام، وعلى طاولة متنقلة لا تتسع إلا لمقعدين، كيانان متفاوضان يختلفان علناً، ويتفقان على المنافع والمكاسب بعيداً عن عيون الكاميرات.
الطيار التركي الذي يُقال إنه سُرّح من عمله بعد الحادثة، وضع روسيا و«الناتو» في علبة هدية واحدة وقدمها لأردوغان، الأمر الذي أيقظ في داخله أحلامه التوسعية القديمة، تخلت تركيا قليلاً - بفضل طيارها المفصول - عن علمانيتها، وفتحت خزائن الدولة العثمانية بحثاً عن خرائط هشة وقابلة للكسر، يمكن الهجوم عليها بأقل تكلفة، ذهبت لليبيا لسرقة النفط. واستدارت نحو اليونان لسرقة الغاز، وغداً ستذهب لجورجيا وأرمينيا لسرقة شيء آخر.
يسرق أردوغان بغطاء من مفاوضين روس بارعين جداً في كسب الوقت والغنائم، يفعل ذلك تحت أنظار دول غربية لا تستطيع المواجهة في الوقت الحالي، فأميركا مشغولة بالانتخابات، وبريطانيا مشغولة بالبريكسيت، وفرنسا مقيدة باقتصادها ومشاكل رئيسها الداخلية، وألمانيا ما زالت غريقة في بئر هتلر! أردوغان ليس قوياً كما يزعم إعلامه، وإنما هو من يخطو وحيداً هذه الأيام في منطقة الفراغ السياسي، والفراغ السياسي مثلما نعلم ونخبر هو النسخة الأرضية من الثقب الأسود. 

*كاتب سعودي