في الفضاء العسكري الإقليمي، وهو حجر الزاوية المركزي في الفضاء العسكري العالمي، وفي ظل تعقيدات النزاعات الإقليمية، القديمة والحديثة، منذ حرب عام 1948 وحتى أمس الأول، وفي التصعيد التركي الخطير مع اليونان وأوروبا في جبهة، ومع ليبيا في جبهة أخرى، وعلى سطح التوتر الساخن، بين أميركا وإيران من جهة، وإيران والدول العربية التي تغرس فيها أظافرها من جهة أخرى، لابد أن يفهم الأصدقاء قبل الأعداء، أن استراتيجيات التفوق العسكري لدول الإقليم، قد تبدلت كليا، ولا بد من تغيير طريقة النظر إليها وقراءتها وتنفيذ أولوياتها.

البيئة الأمنية الإقليمية، التي تضم دولاً عربية، وتضم أيضاً تركيا وإيران وإسرائيل وقبرص، غير مستقرة على الإطلاق، فبعد نكسة عام 1967 التي تلاها مؤتمر الخرطوم، ولم تكن الإمارات قد تأسست بعد، تبين فشل القدرات والإمكانيات العسكرية العربية، وتأكدت نظرية التفوق العسكري الإسرائيلي. ومن دون شرح الأسباب المعروفة التي أدت لخسارة أراضٍ عربية، بدا أن الدول والشعوب العربية، تنظر لإسرائيل كأنها «غول القوة الصلبة»، في المنطقة، فظهر «معسكر المقاومة»، وتشبثت به قوى هشة محشوة بالعاطفة، وظهر أيضاً «معسكر الاعتدال»، الذي قادته مصر بالسلام مع إسرائيل، لتقليص تلك الهوة، التي كانت وما زالت تتسع، تضيق وتكبر، على وقع كل حدث أو حادث أو حديث، لكنها على أرض الواقع، لا تقدم ولا تؤخر.
الفراغ بين معسكري «المقاومة» و«الاعتدال»، طيلة 40 عاماً، جعل من دعاة «المقاومة» مجرد مجموعة من الغوغائيين الثرثارين الذين ليس لديهم سوى الخطب والكلام والتهديدات الفارغة، واللعب على وتر عاطفة الشعوب سواء بوعود تحرير القدس، أو بإعادة الخلافة الإسلامية عن طريق الجماعات الإرهابية كـ«الإخوان» و«داعش» و«القاعدة» وغيرها، والذي أدى بلا شك إلى استنزاف الأمة، مرة أخرى، واستنزاف طاقات شبابها وحكوماتها، ودعا أيضاً المجتمع الدولي إلى النظر إلى الإقليم بأنه ساحة خصبة للتدخل السياسي أو العسكري، والذي أضعف دولاً عربية في الإقليم.. مما أوجب على دول عربية قوية كالسعودية والإمارات ومصر إلى إعادة النظر في تركيبة الإقليم، وعلاقاته مع دول كإيران وتركيا، خصوصاً بعد ما ظهر ما يسمى بـ«الربيع العربي».
الفلسطينيون، وضمن ذلك الفراغ والثرثرة الشعبوية الزائدة، وجدوا أنفسهم عالقين غير قادرين على التقدم نحو السلام أو التراجع نحو الحرب، فأصبح لزاما على الإمارات، وقيادتها السياسية الحكيمة، والتي احتضنت الفلسطينيين منذ عام 1971، بالدعم السياسي والمادي والإنساني، أن تفتح الباب للحل السياسي الشامل الذي يتلاءم مع التركيبة الجديدة لدول الشرق الأوسط، وميزان القوى فيها، وأن تدفع لإيجاد الحلول الواقعية التي تعيد صياغة العلاقات في الإقليم على أسس صحيحة تتضمن تحديد مصدر التهديدات وقدراتها وإمكانياتها الحقيقية، في ظل الجموح الإسرائيلي لضم أراض من الضفة الغربية، بلغ أن أصبح هدفاً رئيسيا لدى دولة إسرائيل.
تدخلت الإمارات في الوقت المناسب لتقديم خريطة طريق تضم وقف أو تأجيل قرار الضم، بدعم أميركي منقطع النظير، وقررت الإعلان عن رؤيتها وخطتها الشاملة تجاه القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتي ستوقف مع قرار الضم الهدر والاستنزاف في الوقت والجهد الذي يضيع بمحاربة افتراضية زائفة لـ «غول القوة الصلبة»، الذي لم يعد على أرض الواقع «غولا»، بل راح ينشد السلام وتطبيع العلاقات وتقديم التنازلات لتصبح جزءا من «التركيبة الجديدة»، وليست طرفاً بعيداً غامضاً ومجهولاً.
سواء قبلت السلطة القائمة في فلسطين، ومنها «حماس» و«الإخوان» وغيرهما، رؤية وخطة الإمارات الشاملة للإقليم أو رفضتها بدافع الحياء من معسكر «المقاومة» الثرثار، أو الحياء من الشعوب العاطفية، التي تم حشوها جيداً بالشعارات القديمة منتهية الصلاحية، فإن الإمارات ماضية في مشروعها العربي لإعادة صياغة الشرق الأوسط ضمن المفاهيم الواقعية وموازين القوى فيها، وتحديد الفضاء والتفوق العسكري الذي يضمن عدم وقوع حرب استنزاف جديدة فاشلة، ويدفع للسلام الشامل الذي تحتاجه الشعوب حقاً.
رجل المهمات الصعبة، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي نعرفه كما نعرف أنفسنا، وكما يعرفه العالم كله، يمتلك مع رؤيته العميقة الثاقبة، الأمل الواقعي الذي يمكن تحقيقه، بأن يصبح الشرق الأوسط الجديد، بيئة تتمتع بالهدوء والأمن والاستقرار، وليست سوقا للإرهاب والتطرف والمتاجرة بالمرتزقة والثرثرة الفارغة والتنطع للتهديد الأهوج، ولأننا جميعا نحتاج ذلك، ونؤمن بأن الإمارات قادرة على المضي نحو ذلك الهدف والأمل بخطوات محسوبة جيدا، نقف خلف شموخ «بوخالد» واثقين نرفع رؤوسنا بعزة وفخر، متأكدين من أنه سيعلي من شأننا وشأن القضايا العربية، وسيحقق السلام العادل الذي طالما حلمنا به.

* لواء ركن طيار متقاعد