حين يُطرح اسم لبنان، فإن أول ما يتبادر إلينا «فيروز» بصوتها الشجي الذي يشق الجبل غرباً وشرقاً، ويتغلغل في غابات البلوط وأشجار الأرز، ويرتد صداه بين سهولها وأخاديدها ليعانق سماءها وقمم صخورها وأعماق بحرها.. هي جارة القمر فيروز التي لم يبق من لبنان سوى اسمها كأيقونة جمال وسط الفوضى والبشاعة، والتوتر السياسي والفقر والفساد.
فيروز- لوحدها- قوة لبنان الناعمة، وصوتها الشجي الجريح والعاشق والثائر، ونكهتها التي تتذوقها وتسمعها في كل أرجاء الوطن العربي، وليس لبنان وحده، هو مقام الفن البديع الرفيع ومزار السلام والحب يتمسح به من ينشد كسب قلوب اللبنانيين وقبولهم. وهذا ما استدركه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الأخيرة قبل يومين للبنان. وهي الزيارة الثانية في غضون شهر واحد بعد حادثة تفجير المرفأ الشنيعة، والتي راح ضحيتها المئات، وأسفر عن جرح الآلاف، وشُرد الكثيرون فآثر ماكرون الولوج إلى لبنان من بيت فيروز، وليس من الباب السياسي الذي نحر الوطن والآمال وأحلام النماء والتعايش والرخاء بل من بيت تشبعت أركانه بصدى «بحبك يالبنان»، وغصت جدرانه بصور فيروز و«الرحابنة» وأعلام لبنان ومآثر الفن الجميل، وكأن البيت يتنفس ألحاناً ومعزوفاتِ الحب والوطن الجريح. 
ولو عدنا لبرنامج الزيارة، فلن نجد فيها أكثر تأثيراً من حدث لقاء فيروز على المستوى الشعبي -وهو الأجمل بالمناسبة - في خضم أحداث متواترة وشحن سياسي ومظاهرات ساخطة على الحكومة وأحزابها وطوائفها وسماسرتها بعد أن سال المرفأ دماءً واختلطت دموع الثكلى بماء البحر، ولم يكفكفها سوى زيارة رئيس دخل الأزقة والبيوت، وربت على الأكتاف، وتوعد القتلة، وانتشى بضجيج الشكاوى، والأهم من هذا وذاك هو باب فيروز!

يواجه لبنان مشكلة اللادولة، ومشكلة الحكومة الفاسدة، التي لم تأبه لحادثة شنيعة كتفجير المرفأ كاهتمامها بمخرج آمن من التحقيقات، هذا فضلاً عن تراكم المآزق كمعضلة الكهرباء، التي تتقاذفها تيارات الحكومة حتى التمست بين «كتلة المستقبل» و«حزب الله»، ومن ناحية أخرى تغص بيروت بالنفايات، التي يبدو أنها لن تُنظف إلا بتنظيف الحكومة برمتها. وبقي أمر غاية في الأهمية، وهو سرقة أموال اللبنانيين من المصارف ما أدى إلى انهيار البلد اقتصادياً، «وكلن يرمي على كلن» فنبيه بري وميقاتي و«حزب الله» كلهم في دائرة الاتهام. وكل ما سبق ناقشه الرئيس ماكرون مع الحكومة اللبنانية، وعاد يضرب أخماساً في أسداس.. ولو عاد في ديسمبر بنفس التساؤلات، فسيكون الأمر مثار استغراب!
في السياسة لن تجد للإنسانية مكاناً سوى توظيفها مخرجاً للسياسة نفسها أو مدخلاً فلا فرق، وفي لبنان لم تكن زيارة السيد ماكرون لفيروز من أجل أن يتغنى «بعيونها شو حلوين»، ولا من أجل عيون اللبنانيين، بل لأجل جملة قالها اختصرت للمراقب السياسي-وليس المراقب العاطفي- فحين يقول ماكرون «إن حزب الله جزء من النظام السياسي اللبناني»، فمن هنا فقط يجب أن نقيم زياته هذه وزيارته السابقة، وزيارته الثالثة في ديسمبر المقبل، والتي أعلن عنها «الإليزية»، وهذا في الواقع سبب حرصه على زيارة لبنان مرتين خلال شهر واحد بعد تفجيرات المرفأ البشعة.
نعم.. الرئيس الفرنسي في بيروت، ليس من أجل الشعب اللبناني، ولملمة جراحه، بل ربما جاء من خلال الشعب للملمة كارثة «حزب الله»، وربما لحفظ مكتسبات أصدقائه الإيرانيين، وتطويق جريمة المرفأ بسياج الوسام حول عنق فيروز. اذاً وكما تقول فيروز نفسها «في شي عم يصير»!
*كاتبة سعودية