يبدو أن الفرنسيين يحبون بين الحين والآخر تحريك الراكد في العلاقة الإسلامية -المسيحية. ويبدو أيضاً أنهم في فتراتهم المتأخرة لم يعودوا يؤمنوا بوحدة وتكامل الأعمدة الثلاثة في شعارهم العظيم «الحرية، المساواة، الأخوة»، وإنما اكتفوا فقط بالالتفاف حول الكلمة الأولى «الحرية»، وأودعوا الكلمتين الأخريين في مجاهل النسيان!
اليوم بعد خمس سنوات، نشرت صحيفة «شارلي إيبدو» الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي سبق وأن نشرتها عام 2015. تفعل ذلك بمناسبة بدء محاكمة عدد من المجرمين الذين هاجموا مقر الجريدة بعد نشر الرسوم، وقتلوا 12 من موظفيها. ترتكب مجدداً في مفارقة لافتة، «الجريمة السابقة» تذكيراً «بالجريمة اللاحقة»! تفعل ذلك من أجل إرضاء عدد محدود من المؤمنين بالحرية المطلقة في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، ودونما احترام لمليارات البشر حول العالم الذين يؤمنون بالحرية المنضبطة، والمساواة بين البشر، والأخوة العالمية!
الفرنسيون خصوصاً والغربيون بشكل عام، يعانون في العقود الأخيرة من مشكلتين رئيسيتين تتعلق بحرية التعبير وحرية العقيدة. الأولى تتمثل في أنهم يريدون من شعوب دول العالم الأخرى أن تكون شبيهة بهم، وإلا فهم مجموعة من الهمج البرابرة الذين لا ينبغي التعامل معهم إلا لأسباب سياسية واقتصادية فقط. والثانية هي أنهم يعتبرون معاييرهم ومقاييسهم في حرية التعبير وحرية العقيدة هي النموذج العالمي الأرقى الذي يجب أن يؤخذ به ويعمم على باقي أقاليم العالم. 
هذا إيمان الشعوب الأوروبية، وهذه عقيدتهم التي تكونت ما بعد الحرب العالمية الثانية، أما حكومات دولهم فهي تؤمن بالعلمانية التي لا تتعرض بسوء للأديان، وتدعم حرية التعبير التي لا تهدد المصلحة، وترعى حقوق الإنسان في داخل أقاليمها فقط، وإلا فهي - وهذه معضلة ثالثة أشد خطورة - لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان في الدول التي لا تشاركها نفس القيم!
هذه النظرة من علٍ لباقي شعوب الأرض، هي ما جعلت صحيفة «شارلي إيبدو» تتجرأ وتعيد من جديد نشر الرسوم الكاريكاتورية التي لن تسيء لنبي ذهب لجوار ربه قبل أكثر من 1400 عام، وإنما ستجرح وتغضب أكثر من 1600 مليون إنسان يعيشون في قارات العالم الخمس.
وهذا الفهم المغلوط للعلاقات الثقافية بين الأمم هو ما جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقول في معرض تعليقه على إعادة نشر الرسوم إنه ليس في موقع يمكنه من إصدار حكم على قرار المجلة، مضيفاً أن بلاده تتمتع بحرية التعبير وحرية العقيدة.
يؤكد ماكرون أن بلاده تمتع بحرية التعبير والعقيدة، لكنه نسي أن يكمل الجملة ويقول «إن بلاده تتمتع بحرية التعبير وحرية العقيدة، إلا في ما يخص معاداة السامية ، فمن يفعل ذلك يتم تجريمه وفقاً للقوانين الفرنسية».
سيد ماكرون، أضف فقط لهذين الاستثنائيين، استثناءً ثالثا، لتبقى فرنسا بلد الحرية والمساواة والإخاء.
*كاتب سعودي