أواخر الشهر الماضي، مثُل رؤساء أربع من كبريات شركات التكنولوجيا الأميركية («ألفابيت» و«آبل» و«فيسبوك» و«أمازون») أمام الكونجرس من أجل الرد على الانتقادات الموجهة إليها، لاسيما امتلاكها المفترض لقدر أكبر مما ينبغي من قوة السوق. الجلسة أظهرت أن المشرِّعين بدؤوا يفهمون ما هو مهم وما ليس مهماً بخصوص تنظيم عمل هذه الشركات الكبيرة. كما أظهرت تركيزاً متزايداً على المجال الأهم من سياسة مكافحة الاحتكار، ألا وهو عمليات الدمج والاستحواذ وما إذا كانت الهيئات المنظّمة تمارس ما يكفي من اليقظة. 
وفي السنوات الأخيرة، ازدادت أهمية شركات التكنولوجيا الكبيرة بالنسبة للاقتصاد الأميركي والأسواق المالية الأميركية، إذ تشكّل شركات التكنولوجيا الخمس الأكبر (الشركات الأربع التي أدلت بشهاداتها، إضافة إلى شركة «مايكروسوفت») أكثر من خمس رسملة السوق لمؤشر «ذا إس آند بي 500». وقد ازدادت قيمتها خلال وباء فيروس كورونا المستجد. 
غير أنه حينما تنمو بعض الشركات إلى هذا الحد وتصبح بهذا الحجم وبهذه الهيمنة، يصبح من المنطقي التفكير بشأن كيف يمكن أن تستخدم حجمها للسيطرة على الأسواق بشكل غير عادل. وأحد الدفوع التي يُدفع بها عادةً للرد على مثل هذه الادعاءات هو أن شركات التكنولوجيا ليست محتكِرة. أما ما إن كان هذا الأمر صحيحاً، فهذا يتوقف على تعريفك للأسواق. فعلى سبيل المثال، تُعد «غوغل» المهيمِنة إلى حد كبير بين محركات البحث، لكنها لا تملك سوى نحو ثلث عائدات الإعلانات الرقمية. وعلاوة على ذلك، أكد الرئيس التنفيذي لـ«فيسبوك»، مارك زوكربرغ، أن شركته تواجه منافسة حادة في كثير من الأسواق، وخاصة من شركات التكنولوجيا الكبيرة الأخرى. 
بيد أن التركيز على ما إن كانت شركة ما محتكرةً لا يعكس فهماً صحيحاً لجوانب الموضوع. وعلى سبيل المثال، احتكارات القلة التي تهيمن فيها بضع الشركات الكبيرة على السوق، تميل أيضاً إلى التمتع بقدر من قوة السوق. ونظرياً، هذا الأمر يمكن أن يسمح للاعبين أقوياء برفع أسعار الاستهلاك، ودفع أجور زهيدة للعمال، والضغط على الموردين. 
غير أن أسعار الاستهلاك ليست هي المشكلة عموماً في حالة شركات التكنولوجيا الكبيرة. ذلك أن الخدمات المقدمة للمستهلكين من قبل «غوغل» و«فيسبوك» تميل غالباً إلى أن تكون مجانية، في حين تأتي هوامش الربح الكبيرة لـ«آبل» بشكل رئيسي من استعداد المستهلكين لدفع الكثير مقابل قيمة العلامة التجارية لهاتف «آيفون». لكن الأجور تمثّل مصدر قلق أكبر بعض الشيء. إذ سبق لبعض شركات التكنولوجيا الكبيرة أن ضُبطت وغُرّمت بسبب تواطؤها من أجل الإبقاء على أجور المهندسين منخفضةً، كما كان هناك اهتمام كبير بالأجور المتدنية في مخزن «أمازون» وعدم جودة ظروف العمل فيه. لكن شركات التكنولوجيا الكبيرة لا تشغّل الكثير من الناس على كل حال، كما أن أنشطتها المتعارضة مع مبدأ المنافسة كانت تتعلق عموماً بالعمال الذين يتقاضون أجوراً مرتفعة. 
غير أن مصدر قلق أكبر يتعلق بالموردين؛ فشركات المنصات الرقمية تعتمد على شبكة من الشركات الأخرى (بائعون يبيعون على موقع «أمازون»، ومواقع على الإنترنت تنشر إعلانات «غوغل»، ومطوّرو تطبيقات يبيعون تطبيقاتهم على متجر «آبل».. وما إلى ذلك). ويمكن لحجم المنصات أن يسمح باستخلاص قيمة كبيرة من هذه الشركات الأصغر، فتطالبها بحصة أكبر من عائداتها أو تذهب إلى حد إنشاء وتفضيل شركات منافسة خاصة بها.
وثمة مبعث قلق آخر هو الأسعار التي تفرضها شركات الخدمات عبر الإنترنت على المعلنين. فبعض التقديرات تشير إلى أن أكثر من نصف الإنفاق على الإعلانات الرقمية يذهب إما إلى «غوغل» أو «فيسبوك»، في حين تُعد «أمازون» المنافس الأسرع نمواً. والمعلنون هم الزبائن الذين يدفعون حقاً مقابل الخدمات المجانية التي يتلقاها المستهلكون على الإنترنت. 
وهذا أحد أسباب قلق المشرّعين بشأن شراء المنصات للمنافسة المحتملة. وقد اعترف زوكربرغ خلال الجلسة المذكورة بأنه اشترى شركة الشبكات الاجتماعية «إنستغرام» في عام 2012 بهدف تجنب منافس محتمل. وهناك ادعاءات بأن الشركة حاولت فعل الشيء نفسه مع شبكات اجتماعية أخرى أصغر أو هدّدتها بالقول إنها إذا لم تقبل عرضها، فإن «فيسبوك» سيطلق منتجاً منافساً ويقضي عليها.
وفي النهاية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى رفع الأسعار بالنسبة للمعلنين في حال كانت منتجات فيسبوك الطريقةَ الوحيدة بالنسبة لها للوصول إلى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. والحال أن هذا النوع من عمليات شراء المنافسة والتهديد بها يمكن أيضاً أن يكون له تأثير سلبي على تكوين الشركات الناشئة وعلى الدينامية الاقتصادية ككل، لأنه حتى تهديد المنافسة من شركة مهيمِنة يمكن أن يردع الوافدين الجدد. ويؤكد تيموثي وو، الأستاذ بكلية القانون في جامعة كولومبيا، أن مثل عمليات الشراء هذه غير قانونية وفق قانون مكافحة الاحتكار. 
وعلى كل حال، من الجيد جداً أن الكونجرس بدأ يولي اهتماماً أكبر لمشاكل التركز والاحتكار الصناعي في الاقتصاد الأميركي. وبالطبع، تُعد شركات التكنولوجيا الحالةَ الأكثر شعبية والأكثر شهرة، ولكن المؤمل، مع ازدياد التركيز عبر معظم القطاعات، هو أن تكون هذه الجلسات نقطة انطلاق لعملية تدقيق ومراجعة أكبر لقيمة الاندماجات الكبيرة والشركات الضخمة المهيمِنة.


*أستاذ المالية العامة المساعد بجامعة ستوني بروك الأميركية. 
ينشر بترتيب خاص مع «خدمة واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»