كانت مئوية «لبنان الكبير» فرصة مواتية لمراجعات نقدية مفصلية لقيام هذا البلد ذي «الصيغة» الفريدة القائمة منذ نشوئه، على تناقض المعطيات الفكرية والسياسية والوطنية للتعمق في ظاهرة الانتماء والولاء والنظرة الشاملة لعناصرها ومكوّناتها.
يقال، إن لبنان الكبير صُنع «للموارنة» بل «صنعه» الموارنة بمساعدة فرنسا. ربما هذا صحيح، لكن النظام نفسه جمع ما لا يجمع، ظاهرة الأقليات الدينية في عمقه، وظاهرة المواطنة عابرة، هذه التنوعات وهذه المحصلة، أنتجت نظاماً ديمقراطياً (هجيناً) نسبياً وفّر لها على امتداد عشرات السنين، مؤونة ومساحات لهذه الحرية والتسامح ولهذا، يمكن القول إن هذا اللبنان أُنتج على مراحل، إنجازات لم يعرفها محيطه العربي، لاسيما بعد قيام الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق وليبيا واليمن... وخصوصاً بعد قيام إسرائيل عام 1948.
هنا التحدي: بات لبنان الكبير، حمّال قضايا، وضغوط، وأفعال تهدد كلها هذه الصيغة، أو «الميثاق» أو «الدستور» أو «الرسالة» أو «الاستثناء».
فهو بات محاطاً أو محاصراً، بأنظمة شمولية وبطموحات توسعية لدى بعضها، وبتداعيات ظهور قضية مركزية هي فلسطين، ومسألة سياسية تتمثل بأنظمة ترفع يافطات تحرير، أكثر مما تسعى إليه جدياً.
هذا الصراع المستجد، الذي لَوّحَ بنكسة 1967، وولّد ثقافة ما، ربما غير واضحة بين الأنظمة العربية ذاتها، وبين علاقات مجتمعة بأزمة التحرير. هنا يمكن ملاحظة بداية تحول لبنان من دور ريادي بحياديته، إلى لا دور سيادي، يكمل تجربته السياسية والثقافية والإبداعية: تحول ساحة للآخرين، ساعي بريد بين المتهافتين عليه. فقد استقلاليته، أي حياديته. وهنا بالذات بدأت تبرز شقوقه الكيانية وتتفتح ندوب انقساماته العمودية، سواء في أحداث 1958، حين انقسم البلد بين ثورتين واحدة تؤيد الوحدة العربية في (أوج الناصرية)، وأخرى بحلف بغداد (وراءه الإنجليز). كأنها كانت بروفة لحروب 1975 (أي بعد خمسة عشر عاماً) والعامل المنفجر هو خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان كطرف في هذا الصراع العريق بين المكونات، مما أدى إلى ما سمي «حرباً أهلية» وضعت أوزارها في مؤتمر الطائف، وبدستور جديد، يؤسس للمحاصصة. 
إذاً أريد أن أقول إن لبنان ليس «خطاً جغرافياً» كما يشيع بعضهم، لكنه وُجد في المساحة الجيوسياسية الخطأ... انقضّ الجميع عليه أولاً لإطفاء ديمقراطيته التي شكلت فضيحة لأنظمة ديكتاتورية، وطمس تعددية الديمقراطية، التي شكلت فضيحة لأحادية الأنظمة، هنا المشكلة، وقد يعمق هذا التمادي بسيطرة الوصاية السورية على لبنان، لتحاول تبديد الأواصر التاريخية لمنتوج ديمقراطيته (النسبية)، ومصادرة مختلف المؤسسات الدستورية التي أنهتها ثورة الأرز، وخروج الجيش السوري من لبنان. لكن المشكلة بقيت أفدح ببقاء ميليشيا «حزب الله»، الذي استفرد لبنان تدريجياً، مع «تواطؤ» الطبقة السياسية، بلغ حد إدراجه في محاور، وفصله عن محيطه العربي وأرومته، وتحويله شبه ولاية إيرانية، وتحطيم مكوناته العميقة، وتفكيك الجمهورية والمؤسسات الدستورية: فبات جزءاً من منظومة إيرانية تحارب العرب، وتعتدي عليهم، وتهجرهم، أي تهديد «عروبته» ومحو «حياده» بافتراس «سيادته».
وقد برز عاملان أساسيان لمواجهة هذا الواقع «الاستعماري» الحراك الشعبي الرافض لهيمنة «حزب الله»، وانفجار المرفأ، ليكونا صرختين مدويتين، واحدة من الشباب المتعطش إلى الحرية، وأخرى من فضح الفساد الذي تسبب بهذا الانفجار.
جاء الرئيس ماكرون «منقذاً» للبنان ولاقتصاده و«تركيبته» (مطالباً «بعقد جديد») وإجراء انتخابات مبكرة... لكن كل هذا جيد نظرياً، لكن صلاحياته مؤقتة: لا حل لكل هذه المسائل، وفساد الطبقة السائدة بوجود سلاح «حزب الله»!
وهنا بيت القصيد، أولاً وأخيراً !
*كاتب لبناني