غيرت جائحة «كورونا» بعض أنماط الحياة المعتادة في مختلف الدول والمجتمعات. فقد فرضت انتهاج سلوكيات جديدة، ووقف أنشطة تعود الناس على القيام بها. ومن الطبيعي أن يعود البشر إلى أنماط حياتهم المألوفة لهم عقب انتهاء الجائحة. ولكن هذه العودة لن تكون كاملة لفترة يصعب الآن تقديرها، ليس بسبب استمرار الحاجة إلى إجراءات احترازية لوقت أطول فقط، ولكن نتيجة ثبوت أن بعض التغيير الذي حدث في هذه الأنماط إيجابي أو مفيد. وينطبق هذا، بصفة خاصة، على مسألة تنظيم العمل في الشركات والهيئات المختلفة.
فقد خلقت الجائحة فرصة لاختبار فرضيات وتصورات بشأن العمل عن بُعد، عندما اضطرت إلى زيادة أعداد من يعملون في منازلهم خلال الفترات التي شهدت غلقاً كاملاً أو جزئياً. وتفيد البيانات المتاحة أن هذه الزيادة لم تكن ممكنة في الظروف العادية. فقد ازدادت نسبة من يعملون عن بُعد في أوروبا مثلاً من 8% قبل الجائحة، إلى 27% من مجموع القوى العاملة.
وهذه قفزة كبيرة لم تكن متصورة في ضوء بطء التطور، الذي حدث في مجال العمل عن بُعد في السنوات العشر السابقة على الجائحة. فقد بقي هذا التطور محصوراً في شركات كبيرة وضمن حدود معينة، إلى أن فرضت الجائحة تسريعه، ضمن الإجراءات الاحترازية التي شملت المحافظة على مسافات آمنة بين الناس، سواء في الفضاءات العامة في غير أوقات الغلق، أو في مواقع العمل. فما كان اختياراً في السنوات الماضية، صار اضطراراً.
وأظهرت تجربة التوسع في العمل عن بُعد أن المخاوف من انخفاض معدلات الإنتاجية، أو تقليل مستواها، كانت مبالغة. وتفيد استطلاعات أُجريت بشأن تقييم هذه التجربة، في شركات وهيئات ذات أنشطة متنوعة، تراجع القلق الذي كان موجوداً لديها من أن يؤدي التوسع في العمل عن بُعد إلى عدم أداء العاملين واجباتهم كاملة. 
ومؤدى نتائج تلك الاستطلاعات، أن المسؤولين التنفيذيين في كثير من الشركات راضون عن التوسع الذي حدث في العمل عن بُعد، لأنه أتاح استمرار أنشطة هذه الشركات، وأنقذ بعضها من إفلاس كان ينتظرها. ولا تقل استفادة العاملين في منازلهم من هذا التغيير، الذي يوفر لهم وقتاً كانوا يقضونه في الانتقال إلى أماكن العمل والعودة منها.
ويبدو أن قاعدة جديدة تُضاف الآن، أو ربما أُضيفت فعلاً، إلى قواعد سوق العمل في العالم، وهي أن كل نشاط يمكن القيام به إلكترونياً أو رقمياً سيصبح كذلك. ولذلك بدأ عدد متزايد من الشركات والهيئات في وضع الخطط اللازمة، سواء لاستمرار من ثبت أن عملهم في منازلهم لا يؤثر سلبياً في أداء واجباتهم، أو للتوسع في هذا الاتجاه بمعدلات ستتوقف على مدى توافر الإمكانات اللازمة له. ولا يقتصر هذا التطور على الشركات الكبيرة، بل يشمل شركات متوسطة، وكذلك هيئات ومؤسسات عامة. وأخذت هذه الشركات والهيئات في تجهيز البنية التحتية الرقمية اللازمة، وسياسات العمل وجداوله. فقدرات الشركات، وغيرها من الهيئات، متفاوتة من حيث مستوى التقدم في مجال التكنولوجيا الرقمية. ويتطلب التوسع في العمل في المنازل وجود شبكة تواصل رقمي على مستوى عالٍ من الكفاءة، ومؤمنة جيداً في الوقت نفسه. وتوفر الثورة الرقمية طول الوقت تقنيات جديدة، ربما تُلغي تدريجياً الفرق بين العمل في المكاتب، وفي المنازل.
وبرغم أن محنة الجائحة فرضت التوسع أيضاً في التعليم عن بُعد في العام الدراسي المنقضي، يبدو أن نتيجة هذه التجربة مختلفة. تفيد المؤشرات المتوافرة أنه لا يوجد اقتناع واسع حتى الآن بالتعليم عن بُعد، خاصة في أوساط أولياء أمور طلاب المدارس، ربما لأنه يضطرهم إلى القيام بدور المُعلم بشكل جزئي على الأقل. كما أن المدارس والجامعات ليست مجرد مكان للتعليم، بل ساحة لتفاعل يتعذر تحقيقه بشكل كامل، عبر الاعتماد على الوسائل الرقمية. وتزداد هذه الصعوبة بالنسبة إلى طلاب الجامعات التي يحدث فيها تفاعل على مستويين. أولهما بين طلاب البلد الذي توجد فيه الجامعة، لأنهم يذهبون إليها من مناطق مختلفة فيه، ولكل منهم انتماءاته الإثنية وطريقة تفكيره. والثاني بين طلاب من دول مختلفة. في العام الماضي، كان هناك أكثر من أربعة ملايين طالب يدرسون خارج بلدانهم. ويستحيل تصور حدوث مثل ذلك في العام الجامعي الجديد، الذي تختلف طرق تنظيم الدراسة فيه من بلد إلى آخر، ولكنها تجمع بين التعليم عن قُرب، وعن بُعد.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية