يستيقظ العالم اليوم، على صباح مختلف، يشبه صباحات انتهاء الحروب الطويلة، تلك التي يحلّ فيها الأمن مكان الفوضى، والهدوء والاستقرار مكان الرعب والخوف، والسلام مكان الحرب، ويتابع العالم، بشغف ليس له مثيل، الأخبار والصور، التي سطرتها ونشرتها العاصمة الأميركية واشنطن، في اليوم التاريخي 15 سبتمبر 2020، فطافت الكرة الأرضية، من أقصاها إلى أقصاها، وبثّت فيها روحاً جديدة، لدولة الإمارات وهي توقع اتفاق سلام تاريخي مع دولة إسرائيل.

لن يستغرب العالم وجود الإمارات على منصات السلام، فمنذ تأسيسها، في العام 1971، تمكّنت وعبر رؤية ثاقبة وبجدارة عالية من ترسيخ صورتها، في عقول وقلوب البشرية جمعاء، أنها دولة سلام، حيث قامت فكرتها، باتحاد الإمارات المتصالحة، على هذا السند المتين، وحين اعتلى بالأمس، صاحب السمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، ممثلاً لدولة وشعب الإمارات، منصة السلام، بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويوقع معه باسم كل الإماراتيين «اتفاق السلام»، كان سنده تلك الرؤية الراسخة المتينة، التي يحمل رايتها هامة المجد، رجل السلام، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.

لا شك أن فرحة العالم بالسلام الإماراتي الإسرائيلي، تعكس فرحة الإماراتيين والإسرائيليين، الذين حلموا بهذه اللحظة التاريخية، التي تغيّر فيها وجه العالم، لكنه لم يتغير بالصدفة، وليس بناء على مواقف عاطفية تجاه موضوعات أو قضايا أو أشخاص، بل لأن الإمارات دولة تقدمت بقوة وثبات في وسائلها المختلفة لاستشراف المستقبل، فقامت خلال السنوات الأخيرة، وهي تحضّر للاحتفال بخمسين عاماً على تأسيسها، بمراجعات دقيقة، لجميع المسائل والموضوعات الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية وغيرها، واستخلصت الدروس وقيّمت النتائج، وقررت بناء نماذج مستقبلية تضمنت رؤية الإمارات المتجددة، داخلياً وخارجياً، للخمسين عاماً القادمة.

في المستقبل، القريب والبعيد، وجدت الإمارات أن استمرار النزاعات الإقليمية، القديمة والحديثة، هو استنزاف حقيقي ومدمر لشعوب المنطقة، وأنه قد يكون مدمراً للعالم أجمع أيضاً، حيث تتصاعد لهجة التصريحات والتهديدات التي تفشي سرّ بعض قيادات في المنطقة قد ترتكب مغامرة غير محسوبة العواقب، تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، يدفع ثمنها العالم كله، فكان لابد من استباق ذلك، بإيجاد الطرق المقبولة لوقف خطاب الكراهية، القائم على الاختلاف الديني والطائفي والعرقي، وتغليب لغة الحوار والسلام، ووضع الحلول لتقترب شعوب المنطقة من بعضها، وتبحث عن القواسم المشتركة، التي تؤسس لمستقبل واعد للأجيال القادمة.

تفتح الإمارات، ومن منصة السلام في واشنطن، وإلى جانبها الشقيقة البحرين، وستلحق بهما دول عربية أخرى، بوابة كبرى، على المستقبل الذي لا ينفع فيه تكرار أخطاء الماضي على الإطلاق، مهما بدا ذلك قاسياً على البعض، خاصة أولئك الذين تسكنهم نصوص بالية جاءت من أحلام واهية، لم تتمكن طيلة سبعين عاماً، من إحداث تغيير إيجابي واحد، على أيّ صعيد، بل أدخلوا شعوب المنطقة في دوامة تعبث فيها نزعة العداء والكراهية، وتتساقط فيها الدماء، بلا جدوى.

المستقبل كما تراه الإمارات، يعجّ بالفرص الواعدة، التي يحتاجها كل طفل وشاب وخبير، يعيش في هذه المنطقة من العالم، وستكون هذه الفرص متاحة فقط، في المجالات المختلفة، لكل من يتمكن من التخلص من أعباء وسقطات الماضي المؤلمة، من النكبة إلى النكسة إلى ثورات الربيع المشؤوم، فيستوعب التغيير، ويدرك أن مقاعد المستقبل محجوزة لمن ينافس بالعلم والمعرفة، وليس لمن يحارب بالرصاص، وأن المراتب العليا لمن يقرأ ويبحث وينجز، وليس لمن يثرثر ويثرثر وينام، وأن الحياة لا تحتمل من يغضب ويحقد ويعاند ويخسر، بل لمن يربح بالود والمحبة والسلام.

كما رأيتم بالأمس، حين اعتلت الإمارات منصة السلام، وصفّق العالم لرؤيتها الشاملة وقرارها التاريخي، فإن الأجيال القادمة، ودون أدنى شك، ستحصد مواسم الخير الوفيرة، التي زرعتها الإمارات بعناية فائقة، وسخرت لها كل الإمكانيات المتاحة، وجندت لها الخبراء والعلماء وأصحاب العقول النيرة والسواعد الصلبة، ولم تضع «فزاعة» لإبعاد الطيور المتطرفة الفاسدة التي تحاول مهاجمتها، بل وقفت وسط حقول المستقبل المشرق، بقواتها المسلحة المتطورة، تصل ليلها بنهارها لحمايتها.

الإمارات التي عرفها العالم منذ تأسيسها، وشاهدها بالأمس على منصة السلام في واشنطن، ستستعيد بالسلام، والتضامن مع كل من ينشد السلام، ما عجز الكلام عن استعادته، طيلة سبعين عاماً.

* لواء ركن طيار متقاعد