ليس التأويل حرفة أو صنعة، حرفة تأويل النصوص للمفسر أو صنعة تحليل المضمون للأستاذ الجامعي، لا تخرج عن النص والكتاب، تخصص دقيق في الجامعات. تقام حوله الرسائل وتصدر عنه الكتب بل هو شأن يتعلق بالحياة اليومية وطريقة تعامل، إحداث أفعال وردود أفعال. التأويل عمل يومي مع الذات ومع الغير، مع النفس ومع الآخرين. هو أسلوب تعامل ومنهج حوار. يتنفس الناس التأويل كل يوم، ويذهبون إلى ما وراء الألفاظ. فقد تعني «نعم» «لا»، وقد تعني «لا» «نعم». وسكوت البنت دليل على رضاها.
التأويل إذن له طابع عملي، الخروج من الفهم إلى الفعل. وهو معنى العزف في الموسيقى، فالعازف هو المؤول للنوتة الموسيقية ‏Interpret. ‬
الصراعات الاجتماعية كلها صراعات تأويلات وليس مجرد اختلاف رؤى أو صراع مصالح. والعلاقات الاجتماعية كلها تحققات لمفاهيم وتصورات. وكما يولد الإنسان فنانا وشاعرا ثم يتحول الفن إلى دين فإنه يولد أيضاً مؤولاً عندما يعود الدين إلى نشأته الأولى في الفن.

ولما كانت الذات وجوداً في العالم فإن الشعور أيضاً يكون في علاقة مع الطبيعة بتوسط الظواهر الطبيعية مباشرة أو بالعلامات التي تشير إليها. فالنص ليس فقط النص المدون في صياغة وقول، بل قد يكون العلامة المقروءة، والإشارة الدالة. فإشارات المرور تقوم بوظيفة اللغة في الأمر والنهي. وبالرغم من أن عالم الطبيعة خارج الذات إلا أنه في علاقة معها على التبادل، وهو ما سمته الفينومينولوجيا القصدية أو الإيحاء المتبادل. وقد تتعدد المعاني، وتتشعب الدلالات وفي نفس الوقت تتجه كلها إلى دلالة واحدة. فالتنوع يقود إلى الوحدة. وهو ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات وجود الله.

بل إن ظواهر الطبيعة كلها علامات لها دلالات كما هو معروف في علم العلامات (السيميائية) أو الدلالات (السميوطيقا). الأرض والنبات والحيوان والأفلاك والإنسان بينها علامات لها دلالات. الأرض للسعي والكد والكدح والإعمار. والنبات للطعام والزينة. والحيوان أيضا للغذاء والانتقال. والأفلاك للإنارة ليلاً والاهتداء بها في السير، والإنسان مركز الكون، وكل شيء فيه مسخر له. وقد لاحظ ذلك الشعراء، وكل الاتجاهات الهرمسية، والقبالا اليهودية بل واستمر التيار في الغرب في بدايات العصر الحديث عند يعقوب البوهيمي وسويدنبرج.

وبلغ التيار الذروة في الرومانسية التي وحدت بين الروح والطبيعة كما هو الحال عند شلنج في فلسفة الهوية، والروح والتاريخ كما هو الحال عند هيجل في «ظاهريات الروح».

إن فلسفة العلم تأويل مؤقت للطبيعة طبقاً لمعطيات العلم. تقف عند مستوى التصورات والمفاهيم. هو نوع من التأويل العقلي المحدود دون أن يتحول إلى «شاعرية العلم».

إن التأويل هو الذي يحمي الطبيعة من التحول إلى نماذج رياضية ومعادلات حسابية ونماذج رياضية. فهذا إعمال للعقل الصوري في الطبيعة المادية، طرف في مواجهة طرف، وكلاهما نقيضان وقرينان، مختلفان ومتشابهان، متغايران ومتحدان، الصورة والمادة، الشكل والمضمون، الرياضيات والفيزياء كما هو الحال في الفيزياء المعاصرة منذ النظرية النسبية.

وهو الذي يحمي الطبيعة أيضاً من التجريبية الساذجة والمباشرة في التعامل معها. التأويل هو الذي يحول الطبيعة المادية إلى صورة فنية أو تصور فلسفي حتى يستطيع العقل أن يتعامل معها فتقل المسافة بين الذات والموضوع.

التأويل هو القادر على إدراك دلالات الطبيعة وفهم معانيها حتى يعيش الإنسان فيها في وئام معرفي، وألفة سلوكية. لا يكون فيها غريباً، ولا تكون هي غريبة فيه. أما تسخير قوانين الطبيعة، وسيطرة الإنسان على الطبيعة طبقاً لنموذج «الإنسان سيد الطبيعة» فهو قفز على التأويل واتجاه مباشر نحو المنفعة مما يدمر الطبيعة ويلوثها، ويوقع الإنسان في الاغتراب الطبيعي الذي لا يقل أهمية عن الاغتراب الديني.