التجمع الأوروبي في شرق المتوسط الذي يقوده الرئيس الفرنسي ماكرون في مواجهة تركيا وأطماعها في المنطقة ليس الأول في التاريخ. فرغم عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فإن أبواب بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي أقفلت في وجهها منذ اليوم الأول، ولم تزل. تعرف تركيا أنها غير مقبولة أوروبياً. والتاريخ يشهد على ذلك، ففي الثاني عشر من شهر سبتمبر من كل عام، يجري احتفال أوروبي إحياءً لذكرى إنقاذ فيينا من الحصار التركي الذي كان بدأ في شهر يوليو من عام 1683.
في ذلك الوقت كانت فيننا قلب أوروبا النابض. وكان سقوطها يعني فتح الطريق أمام القوات التركية لاجتياح بقية العواصم الأوروبية. حاصر فيينا زهاء نصف مليون جندي تركي، ووصلوا فعلاً إلى أبوابها، غير أن الأوروبيين أدركوا أن سقوط فيينا يعني سقوطهم جميعاً. وبالتالي فإن إنقاذها يعني قطع الطريق أمام التمدد التركي. وهكذا تآلفت الدول الأوروبية بقيادة ملك بولندة يوحنا سوبسكي، وجيّشت قوات كبيرة تمكّنت من فكّ حصار فيينا وإنقاذها. ونتيجة لهزيمة القوات التركية جرى إعدام الوزير الأعظم مصطفى قره علي في بلغراد. ثم تتالت الهزائم العسكرية التي لحقت بهذه القوات، وكانت أشدها قسوة الهزيمة التي كانت المجر مسرحاً لها.
التحالف الأوروبي في عام 1683 في وجه القوات التركية قاده ملك بولندة بجيش تجاوز عدده في ذلك الوقت 70 ألف رجل، ويشهد هذا العام تحالفاً أوروبياً ولكن هذه المرة بقيادة الرئيس الفرنسي ماكرون الذي نقل إلى شرق المتوسط قطعاً من الأسطول الفرنسي.
صحيح أن قواعد لعبة الأمم تغيّرت، ولكن من لا يتعلم من التاريخ، يعيد ارتكاب الأخطاء التاريخية. فالتهديدات التي وجهها الرئيس التركي أردوغان إلى قبرص واليونان، تذكّر بلغة التهديدات التي وجهها الوزير العثماني الأعظم إلى أهل فيينا أثناء الحصار. قال لهم الوزير: «من يرغب منكم في البقاء والاستسلام تحفظ ممتلكاته. أما إذا عصيتم وامتنعتم فإننا سنقطّع كل صغير وكبير منكم بحدّ السيف». وقد ترجمت اليونان اليوم المناورات العسكرية التركية في شرق المتوسط، على أنها تهديد مماثل.
يعلّمنا التاريخ أن العدّ العكسي لسقوط الإمبراطورية العثمانية بدأ مع هزيمة القوات التي كانت تحاصر فيينا. فلو سقطت تلك العاصمة الأوروبية الكبيرة لكان التاريخ غير التاريخ. ويعلّمنا التاريخ أيضاً أن الأوروبيين أشداء على أعدائهم وغير رحماء بينهم. فهم يتحاربون ويتقاتلون بلا هوادة كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية وما قبلهما. ولكنهم يتوحدون في مواجهة «العدو» الخارجي. حدث ذلك في عام 1683 ويحدث ذلك أيضاً في عام 2020.
لم يغيّر من هذا الواقع عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي. ففي المادة الخامسة من ميثاق الحلف نصّ يقول إن أي اعتداء على أي دولة من أعضاء الحلف يُعتبر اعتداءً على دول الحلف كافة. ولكن الميثاق لا يتضمن أي مادة تتعلق بالاعتداءات بين دول الحلف (تركيا واليونان)، ولعله لم يتوقعها.
يبقى الإقرار بأن ما يوجد في المواثيق شيء وما في القلوب شيء آخر. في الميثاق الأطلسي تعتبر تركيا في مقدمة الدول المدافعة عن الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع فإن الاتحاد الذي أدار ظهره لتركيا، بعد ما استاء من سياساتها التوسعية والتدخلية، وهو يحشد اليوم قواته لمواجهتها في شرق المتوسط ولفرض عقوبات اقتصادية عليها من شأنها أن تقصم ظهر الاقتصاد التركي إذا ما وجدت طريقها إلى التنفيذ. لن تحاصَر «فيينا» مرة ثانية.. وتالياً لن تُهزم القوات التركية مرة ثانية. الطرفان تعلّما الدرس، وتعلّما أصول «لعبة حافة الهاوية»!.