ما ينقص مشهد الصراع السياسي للوصول إلى البيت الأبيض، هو ربما مشهد مقتبس من سلسلة أفلام «هاري بوتر» لمشهد نزال بين «بوتر» والشرير أجدع الأنف (الذي لا يذكر اسمه). عبر التاريخ السياسي الأميركي، كانت جولات السباق الرئاسي والمناظرات المصاحبة بين المرشحين الرئاسيين، كانت سياسة يحبس بعضها الأنفاس، تماماً مثل مشاهدة نزالات محمد علي كلاي التي كانت تنقل بالأبيض والأسود. أما الآن، فالمشهد هو أشبه بعراك شوارع لا يحتكم لآليات انضباط.
المشهد الانتخابي يبدو بكل تفاصيله منفلت من عقاله، لدرجة أن الحراك المدني للتيار الليبرالي بات يطالب بإلغاء المؤسسات الشُرطية على المستوى الفيدرالي، في حين أن اليمين الأميركي يرفض محاسبة الإفراط في عسكرة العقيدة الأمنية في المؤسسات الشُرطية. فاليمين الأميركي أسرف في البناء على فرضية كره كل الآخرين للنموذج الأميركي إبان الحرب على الإرهاب، في حين رفض التعاطي بشكل مسؤول مع ظاهرة انفلات اقتناء السلاح بمواصفات عسكرية من قبل الأفراد، بل ورفض وصف العمليات التي تقوم بها المنظمات الراديكالية (سمو العرق الأبيض) بالإرهاب المحلي، إلا في وقت متأخر جداً، وليس في كل الأحوال. 
حالة الانفلات الاجتماعي في المشهد الأميركي مقلقة بكل المقاييس التاريخية والاجتماعية للولايات المتحدة، ولما تمثله من تحد لعراقة إرثها المدني، إلا أن قواعد الاشتباك (سياسياً) بين التيارات التقليدية لم يعد تقليدياً. ونجد الليبراليين قد غادروا مربع المسؤولية السياسية وطنياً في حراكهم الميداني، وهم غير آبهون بمآلات حرق المدن إنْ كان ذلك سيضعف من حظوظ إعادة انتخاب الرئيس ترامب. أما الإعلام الأميركي، فهو اليوم الذراع الطولى للرأسمال المسيس، وليس أهواء المعلن الأميركي أو صناديق قوى الضغط السياسي. فالقطاع الخاص الأميركي لم يعد قادراً على التأثير على عملية صناعة القرار السياسي، أما ثروات الأغنياء الخارقين من أمثال «جيف بيزوس» بالإضافة لقوى خارجية، فإنها اليوم هي من يحدد السياسات التحريرية في كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية، وكذلك منصات الإعلام الاجتماعي الحديثة مثل فيسبوك، فقط في خدمة أجندات سياسية حتى وإن تعارضت والمصالح الوطنية للولايات المتحدة.
«المحافظون الجدد» لم يعودوا متصلين بالقيم التي أسست لها المرحلة «الريغانية»، وسقوط الاتحاد السوفييتي أفقد المؤسسة السياسية الأميركية بفرعيها (المحافظ والليبرالي) حالة التوازن التي كانت محسوسة في رسم السياسات الأميركية دولياً وأميركياً. إلا أن تكامل الرأسمال السياسي مع الرغبة العقابية لجريمة اعتداءات 11 سبتمبر، أسس لحالة غير مسبوقة من السياسات الداخلية والخارجية، وحالة من عدم الاتزان في الشخصية الاعتبارية للولايات المتحدة. وكانت ابلغ ظواهرها «الخوف من الآخر غير الأميركي».
هل ستتعافى الولايات المتحدة من هذه الزلة التاريخية، ذلك هو التحدي الأكبر أمام هذه التجربة الإنسانية الأكبر، والإمبراطورية الأكبر والأغنى عبر التاريخ البشري. وإن كان المشهد السياسي الأميركي قد يبدو قاتماً بكل المقاييس السياسية والاجتماعية، فإن ذلك الواقع هو نتيجة تغول الرأسمال المسيس إن لم نقل السياسي خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فالولايات المتحدة الأميركية قد اختبرت تأثير المال السياسي التقليدي، واستطاعت المؤسسة السياسية على التعاطي مع تأثيراته بما لا يضر وثوابت الآباء المؤسسين (إعلان مبادئ الجمهورية). إلا إننا اليوم أمام مشهد بالغ التعقيد سياسياً واجتماعياً، وهو غير مسبوق أميركياً، في ظل غياب الشخصية القادرة على طرح بدائل مقبوله خارج إطار الاستقطاب الحاد الذي تمر به العملية السياسية الأميركية.
الناخب الأميركي يبحث عن ضمانات اقتصادية لما بعد جائحة كورونا، وإطفاء النيران في المدن وإعادة الأمن، وكذلك إطفاء حرائق الغابات التي باتت تهدد أكثر من ولاية. ربما فشل المرشحين في المناظرة الأولى في أن يكونا بمستوى المرشحين الرئاسيين، ولكن الناخب الأميركي الآن يتطلع لتجاوز هذا الشكل الهجين من السياسة الوطنية.
*كاتب بحريني