تغير لا تُخطئه العين في بعض سياسات تركيا الإقليمية، خاصةً في منطقة شرق المتوسط التي تحاول إيجاد موضع قدم فيها، فقد بدأ نظام الرئيس رجب طيب أردوغان في التراجع، اعتباراً من الأسبوع الثاني في الشهر الماضي، عن بعض جوانب السياسة العدوانية التي انتهجها سعياً إلى فرض أمر واقع في هذه المنطقة، منذ أن عقد اتفاقاً في أغسطس 2019 مع حكومة طرابلس التي تفتقر إلى الشرعية الداخلية والمشروعية الدولية، وكان واضحاً أن الهدف الأول لهذا الاتفاق هو إيجاد مبرر للحضور في منطقة شرق المتوسط الغنية بالغاز والنفط، إلى جانب محاولة «شرعنة» وجود تركيا في ليبيا.
ولم تمض أيام على عقد ذلك الاتفاق حتى أرسلت تركيا سفينة التنقيب عن الغاز «أوروش رييس» ‏(Reis Oruc) ‬للقيام ‬بعمليات ‬مسح ‬زلزالي ‬واستكشاف ‬أمام ‬جزيرة ‬كاستيلوريزو ‬اليونانية، ‬ومعها ‬القطعتان ‬العسكريتان ‬«أتامان» ‬و«جنكيز ‬خان»، ‬في ‬استفزاز ‬صريح ‬ليس ‬لأثينا ‬فقط، ‬ولكن ‬لمصر ‬وقبرص ‬أيضاً.
وحفل الخطاب الرسمي الليبي، في ذلك الوقت، بهجوم وتهديد متفاوتين في حدتهما لدول المنطقة التي ترفض وجود تركيا في مياهها، ولفرنسا التي سبقت غيرها من الدول الأوروبية المتوسطية إلى إدراك خطر الحضور التركي، فضلاً عن افتقاره إلى أي أساس في القانون الدولي.
غير أن هذا الخطاب الخشن تغير جزئياً، خاصةً تجاه مصر التي ناصبها نظام أردوغان العداء منذ سقوط حكم جماعة «الإخوان» في أول يوليو 2013، وأُسندت مهمة استخدام لغة ناعمة وإظهار ميل إلى التودد نحو مصر إلى كل من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو والمستشار الرئاسي ياسين أقطاي، وكان لافتاً حديث الأخير في مقابلة أُجريت معه في 11 سبتمبر الماضي أشاد فيها بالجيش المصري، ووصفه بأنه جيش عظيم و«نحن نحترمه كثيراً»، كما قدم أردوغان، في مقابلة تلفزيونية في 19 سبتمبر الماضي، عرضاً للحوار مع مصر، وإن وضعه في سياق وجدته القاهرة مُلغَّماً ولا يلبي شروطها لقبول أي حوار.
لكن المؤشر الأساسي إلى تغير جزئي في سياسة تركيا العدوانية في منطقة شرق المتوسط كان إقدامها في 13 سبتمبر الماضي على سحب سفينة التنقيب عن الغاز من أمام الجزيرة اليونانية إلى ميناء أنطاليا، بعد أن كان متوقعاً استمرارها حتى 25 من الشهر نفسه على الأقل، ورغم الإعلان الرسمي عن أن السفينة أنهت مهمتها في موعدها، كان واضحاً أن سحبها جاء في سياق السعي إلى تهدئة اضطرت إليها، بعد ما أدركت أن استمرارها في التصعيد سيؤدي إلى عواقب وخيمة، الأمر الذي فرض عليها الدخول في مفاوضات مع اليونان.
ويعود هذا الاضطرار التركي إلى التهدئة لعوامل عدة أهمها ثلاثة؛ أولها موقف مصر الحاسم ضد وجود تركيا في ليبيا، خاصةً منذ يونيو الماضي، عندما وضعت خطاً أحمر (سرت والجفرة)، والذي ساهم -مع عوامل أخرى- في كبح جماح تمدد أنقرة، وثانيها إدراك تركيا أن الاتجاه لإنشاء منتدى إقليمي للغاز لا مكان لها فيه أقوى، مما يرجح أنها تصورته في البداية، فقد تسارعت في صيف 2020 الخطوات التي قادت في 22 سبتمبر الماضي إلى توقيع ميثاق هذا المنتدى ليكون منظمة إقليمية مقرها القاهرة، وتهدف إلى تطوير سوق إقليمية مستدامة للغاز، والاستفادة القصوى من موارد المنطقة، ودعم جهود دولها (مصر واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن وإسرائيل) لاستثمار احتياطياتها، والتعاون مع أطراف صناعة الغاز وتجارته في العالم.
وثمة عامل ثالث لا تقل أهميته، إن لم تزد، هو العزلة التي باتت فيها تركيا على المستوى الدولي، بعد تصويب إدارة ترامب السياسة الأميركية تجاه حضور أنقرة في شرق المتوسط، وتعبيرها عن القلق من أنشطة التنقيب التى قامت بها، وتطور موقف الاتحاد الأوروبي باتجاه تلويح بروكسل في 30 أغسطس الماضي بفرض عقوبات كان متوقعاً أن تُبحث جدياً في قمة المجلس الأوروبي التي أُجلت من 24 سبتمبر إلى الأول من أكتوبر، لولا إسراع نظام أردوغان إلى التهدئة وسحب سفينة التنقيب، وقبوله الحوار مع اليونان في مقر حلف الأطلسي.
لكن قراءة سياق هذا الاتجاه التركي إلى التهدئة تفيد أنه نوع من المناورة الاضطرارية بعد أن أصبح وضع أنقرة بالغ الصعوبة، وأنها قد تعاود التصعيد إذا وجدت فرصة مواتية، ولذا وجب الانتباه إلى طبيعة هذه التهدئة التي تُمثِّل تراجعاً ‬يمكن ‬أن ‬يكون ‬مؤقتاً، ‬وليس ‬مراجعة ‬تؤسس ‬لمنهج ‬جديد ‬في ‬سياسة ‬تركيا ‬الإقليمية.