ليس الصراع الدائر في القوقاز حالياً بين أذربيجان وأرمينيا مجرد صراع له أسبابه وجذوره التاريخية وعوامله المحلية والإقليمية، ولكنه أيضاً انعكاس لظاهرة عرفها النظام الدولي منذ انتهاء نموذجه الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، أو بالأحرى منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 إلى خمس عشرة دولة، كان من بينها أذربيجان وأرمينيا. أما الأسباب والجذور التاريخية والعوامل المحلية والإقليمية، فترجع على الأقل إلى الحقبة السوفييتية، حين كان إقليم «ناغورنو قرة باغ» المتنازع عليه في الصراع الراهن منطقة حكم ذاتي في جمهورية أذربيجان، وقد أُعطي لها هذا الوضع، نظراً للتمايز العرقي لسكانها الذين تنتمي أغلبيتهم الساحقة (حوالي 95%‏) إلى الأرمن الذين هم سكان جمهورية أرمينيا السوفييتية، وهو حال معظم دول العالم، التي يستحيل فيها الحديث عن نقاء عرقي، وإن كان هذا التنوع العرقي لا يُفضي بالضرورة إلى حروب أهلية قد تتحول إلى نزاعات إقليمية ودولية، إذا توفرت لها عوامل معينة. غير أن هذا ما حدث في حالة «ناغورنو قرة باغ»، نظراً للتماثل السكاني وشبه التلاصق الجغرافي بينه وبين أرمينيا، لذا كان التوتر هو السمة السائدة في العلاقة بين سكانه وبين سلطات جمهورية أذربيجان السوفييتية، بدليل أنه بمجرد أن بدأت القبضة السوفييتية تهتز في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، بعد وصول جورباتشوف إلى سدة السلطة في الاتحاد السوفييتي وارتباك سياساته الإصلاحية، تجرأ مجلس السوفييت في الإقليم على مطالبة موسكو بضمه إلى أرمينيا، وهو ما لم يوافق عليه قادة أذربيجان بطبيعة الحال. وفي سنة 1989 ازداد الموقف تعقيداً، بإعلان المجلس السوفييتي الأرمني توحيد الإقليم مع جمهورية أرمينيا. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً عام 1991، نشأ الوضع الحالي الذي تحاول أذربيجان تغييره، وهو إعلان سكان الإقليم انفصالهم عنها، مع عدم انضمامهم إلى أرمينيا، أي أنهم شكلوا جمهورية مستقلة لم يعترف بها أحد حتى الآن، ولا حتى أرمينيا نفسها، وإن كان لا يخفى أنها تدعمها بالمال والسلاح. وقد ترتب على هذا الإعلان حرب ضروس (1992-1994) راح ضحيتها الآلاف، انتهت بوقف لإطلاق النار وليس بتسوية سياسية. لذا تجددت الصدامات العسكرية مراراً منذ ذلك الوقت، لعل أهمها كان في عام 2016، وصولاً إلى الصدام الحالي.
وترتبط هذه التطورات بفكرة «تفكيك التفكيك»، التي عرفها النظام الدولي بصفة خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ففي البدء يتفكك الكل إلى أجزاء، كما حدث مع انفراط عقد الاتحاد السوفييتي إلى 15 جمهورية، ثم تبدأ بعض الأجزاء في التفكك لاعتبارات عرقية، أو دينية، أو مذهبية، أو حتى سياسية. وللأمانة، فإن فكرة «تفكك التفكك» لم تبدأ بانهيار الاتحاد السوفييتي، فلدينا المثال الأشهر، متمثلاً في تفكك الهند، لدى الاستقلال، إلى دولتين (الهند وباكستان) لاعتبارات دينية، ثم تفكك باكستان بانفصال بنجلاديش عنها لاعتبارات قومية، بعد أقل من ثلاثة عقود. وفي الحالة السوفييتية لم يقتصر «تفكك التفكك» على أذربيجان، وحدها وإنما عانت منه جمهوريات سوفييتية سابقة أخرى، كجورجيا وأوكرانيا. فقد شهدت جورجيا تطورات في علاقتها بأوسيتيا الجنوبية، قبل وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، مشابهة لما شهدته علاقة أذربيجان بإقليم «ناغورنو قرة باغ». وكذلك وافق سكان شبه جزيرة «القرم» في استفتاء على الانضمام للاتحاد الروسي عام 2014. والأخطر على استقرار النظام الدولي أن الظاهرة كما لم تبدأ بتفكك الاتحاد السوفييتي، فإنها لم تتوقف عنده، وهذا حديث آخر.