الصيف أرحم بالنازحين المنتشرين في براري الشمال السوري دون سقف أو جدار، حيث يمكن البحث عن فيء في ظلال الأشجار، إن لم تكن الأرض قفراً، لكن الشتاء شديد القسوة، حين تهب الرياح فتذرو الخيام، ويجد الأطفال والنساء وكبار السن أنفسهم في العراء، والبرد القارص ينخر العظام، ويخوض الجميع في الأوحال، ولا مهرب من مستنقعات الدم حولهم، ومئات آلاف الأطفال بلا مدارس، ولا مشافي تكفي لمعالجة الجراح، وقد اعتاد الضمير العالمي على رؤية هذه المآسي التي تتصاعد دون أن تجد قلباً رحيماً يضطرب لبواكيها، وبات إهمال هذه الفواجع مثيراً، فقد تعامت دول العالم عن رؤيتها، وبات المتعاطفون يكتفون بالتصريحات التي يطلقونها على حذر واستحياء، وقد جعلوا القرار الدولي الآمر بالحل السياسي مشجباً يعلقون عليه العجز أو اللامبالاة بمصير ملايين السوريين، إن في فيافي النزوح، أو في مدن الشتات، ولم يعد السوريون الباحثون عن قشة يتعلقون بها للخروج من مستنقع الدم والوحل يصدقون شيئاً، أو يأملون بحبل نجاة.
ولقد هبت دول عظمى للتعبير عن اهتمامها بالقضية السورية، سياسياً وإنسانياً، فإذا بها تعبر عن هذا الاهتمام بإقامة قواعد عسكرية، حتى بات الهم الأكبر أمام المعارضين الذين انتفضوا ضد ممارسات محلية قامعة، هو استعادة السيادة الوطنية التي فتكت بها قوى خارجية، بدءاً من «حزب الله» وإيران، ثم طوفان من ميليشيات طائفية يصعب حصر أسمائها، فضلاً عن التدخل الروسي المباشر. وظهرت على الضفة الثانية ردة الفعل من جنسه الأيديولوجي، ولم يعد الصراع بين مواقف سياسية فحسب، وإنما صار صراع هويات وقوميات وإثنيات، وأوشكت سوريا الدولة أن تضيع في لجة الصراعات الدولية والدينية والعرقية، على أرضها. واليوم نشهد إشعالاً للفتنة بين أهل حوران وبين أهل السويداء، وصراعات مفتعلة بين العرب والأكراد، وبحثاً عن لهيب حارق للجميع في محاولة وضع الأقليات ضد الأكثرية من أهل السنة. والواضح أنه حين وهن الجسد السوري، ظهرت الأمراض الفتاكة التي كانت مختبئة تحت ستار استقرار بدا هشاً، قابلاً للانهيار سريعاً، وحتى مجتمع الأكثرية بدا متصدعاً، فبعضه اصطف مع السلطة يدافع عنها ويقتل الذين يرفضون ممارساتها، وبعضه الآخر لا يزال ممسكاً بجمر مطالبه رغم أن يديه تحترقان، وقد فقد وطنه وبيته وبات نازحاً مشرداً، أو لاجئاً، أو غارقاً في بحار الهروب.
هل حقاً عجز المجتمع الدولي عن فرض الحل السياسي الذي أقره مجلس الأمن دون فيتو من روسيا أو الصين؟ ما الذي يجعل العالم كله يقف صامتاً أمام مآسي يتفتت الصخر من آلامها؟ لقد تعودت أعين العالم على رؤية أشلاء السوريين، وحادثة التفجير التي حصلت قبل أيام في مدينة الباب وسط سوق شعبي تفجرت فيه سيارة قتلت العشرات وجرحت المئات، وتناثرت حولها أشلاء الضحايا، وحدها جديرة بأن يهتز العالم من أجلها، وأن يخصص لها تحقيقاً دولياً يسأل: من المجرم الذي أرسل الشاحنة؟ ومَن المسؤول عن ارتكابها؟ لكن الخبر لم يعد مثيراً لأن مشهد القتل والتفجير بات حدثاً اعتيادياً في سوريا، وقد لا يطول التفاعل الإعلامي معه أكثر من بضع ساعات.
لقد أصبح كثير من أهلنا يعتقدون أن العالم راضٍ عما يحدث بحقهم، أو غير معني به حتى على الصعيد الإنساني، وباتت المعالجات الدولية شبه مسرحيات للتعمية، دون أي حماس لإقامة العدل أو الأمن، فقضية مقتل الحريري مثلاً استهلكت خمس عشرة سنة حتى ظهرت نتائج التحقيق، ولا ندري كم عقداً من الزمان سوف تستهلك قضية تفجير مرفأ بيروت، وها هي ذي محاكم العالم الدولية ما تزال تتفرج منذ تسع سنين على مقتل أكثر من مليون سوري، وإعاقة أكثر من مليونين، وتشريد نحو أربعة عشر مليوناً، فضلاً عن استخدام الأسلحة المحرمة.
المهم أن شتاء سوريا العاشر يقترب، والمشردون ينتظرون حلاً، وجل ما يخشونه أن تعود الحرب ضارية فوق رؤوسهم في الشمال السوري، وكان حسبهم أن يجدوا لقمة للعيش وسط أكوام الخراب والدمار.