يبدو التطرف في جانب منه عبارة عن أفكار أو تصورات نظرية، تبدو متماسكة ومبررة في ذهنً لا يمتلك قدرة على الفحص والدرس والنقد والتفكيك، ولا نفس بوسعها التأمل والنظر إلى كل أمر، وكل شيء، بإمعان وتدبر، ولا تجربة علمت صاحبها كيف يتوقف عند كل ما يسمع ويرى، ويضعه محل شك، إلى أن يتيقن منه، ومحل مراجعة، وأخذ ورد، حتى يثبت. 
بالطبع فإن عالم الأفكار، متهافتة كانت أو راسخة، ليس وحده الذي يجعل فرداً ينزع إلى التطرف، فقد يكون هذا مردوداً إلى اعتلال نفسي، أو حاجة مادية، تدفع صاحبها إلى الانتماء إلى ما يحقق له حماية أو سند اجتماعي يفتقده أو لذة يشتهيها، أو مال ينقصه، أو دور اجتماعي يحتاج إليه، وإلى من يجد في كنفهم رعاية يفتقر إليها بين الناس. لكن حتى هذه الأسباب لا يمكنها أن توطد بقاء صاحبها في صفوف المتطرفين إلا بعد أن يملأوا رأسه بأفكارهم. فأياً كانت أسباب الانخراط في صفوف المتطرفين فإن الجانب القيمي والفكري لا يمكن نكرانه، بل قد يكون له الدور الأكبر في صناعة التطرف، والدليل على ذلك أن الإرهابيين، الذين يسندون أنفسهم زوراً إلى الإسلام، ينتمون إلى طبقات اجتماعية متفاوتة، وخلفيات تعليمية مختلفة، وبلدان شتى، وتجارب حياتية متعددة، لكنهم جميعاً يغرفون من معين أفكار واحد.
من أجل ذلك يكون للعقل النقدي الذي تصنعه الثقافة دوماً دور عميق في مواجهة التطرف، فالمثقف هو من يمتلك عقلاً نقدياً واعياً وذوقاً رفيعاً، يجعله محصناً ضد القابلية لغزو أي أفكار مصمتة وشاذة يزعم أصحابها أنهم يمتلكون «الحقيقة المطلقة»، فالمثقف الحقيقي يفكر بطريقة علمية، والعلم ينزع إلى النسبية والشك والمساءلة والتجدد، وكلها قيم لا يتمتع بها المتشددون والمتنطعون والمتطرفون.
كما أن الثقافة الشعبية أو «الفلكلور» بعمقه الفني، شعراً ونثراً وموسيقى، يمثل حائط صد كبيراً ضد التطرف، ولهذا يعمل المتطرفون دوما على تطويقه وتقويضه، ويرمونه بأنه «جاهلية جديدة»، ويرسخون لهذا المفهوم في آذان الناس بالإلحاح عليه، كي يقتنعوا به. وفي بعض المناطق التي تمكنت تنظيمات متطرفة من السيطرة عليها حالوا بين الناس وأداء طقوسهم التي اعتادوا عليها في الأفراح والأتراح.
بالقدر نفسه يرفض المتطرفون الفنون والآداب التي تنتجها النخبة الثقافية، إلا إذا كانت توافق تصورهم، فالسينما والمسرح والإنتاج الشعري والقصصي والروائي، والموسيقى والغناء، مرفوضة لديهم، بزعم أنها أشياء غارقة في الأكاذيب، وترمي إلى الإلهاء عن ذكر الله، أو هي من قبيل الفسق والفجور. وفي وجهها حاولت الجماعات المتطرفة صنع فنها، الذي جاء جافاً بلا ذوق، وسطحياً بلا عمق، ووعظياً بلا أي شروط أو مقتضيات للفن، ومعلباً لا إبداع فيه.
وفضلاً عن النقد والمساءلة فإن الثقافة الحقيقية تصنع «التعددية» فهي في تكوينها منجذبة إلى كل ما يفيد، وبذا لا تنهل من معين واحد، وتصير عابرة لعطاءات معرفية وإنسانية عدة، وتدعو إلى هذا، حتى لو كان صاحبها يقف على أرضية فكرية معينة قد تخيرها بعد طول إطلاع وفهم ووعي. وهذا التعددية لا تتوافق بالطبع مع أصحاب الخطاب الأحادي، الذي لا يؤمن إلا بمسار وحيد ولون واحد، ويراه «الطريق المستقيم» أو «الصواب المطلق» وما عداه إما مستلب أو مرذول أو مكروه أو كافر.
وهناك عنصر ثالث تتسم به الثقافة هو الحركة الدائبة الدائمة التي يدفعها ما تتسم به من قدرة على إثارة جدل داخلي، وبالتالي المشاكسة والتجدد. وهذا أيضاً يجعل المتطرفين في خصام معها، فهم يميلون إلى الأفكار الراكدة، التي تشكل نسقاً مغلقاً، ينتهون منه، ولا يميلون إلى وضعه موضع النظر والاختبار والتدقيق، وإلا انفصم عراهم، واهتز تماسكهم، ففقدوا أهم ما يسعون إليه، وهو بناء تنظيم حديدي يقوم على مبدأ «السمع والطاعة» ويعتقد أفراده أن قادته ملهمون، وأنهم يقررون دوماً ما هو في صالح الدين ومصلحة الجماعة.

* روائي ومفكر مصري