تمتلك دولة الكويت خبرة كبيرة ومميزة في مجالات الاستثمار، كما أنها تعتبر رائدة في مجال تأسيس الصناديق السيادية، والتي تلعب الآن دوراً مؤثراً في اقتصادات العديد من الدول، بما فيها المتقدمة، حيث تم إنشاء أول صندوق سيادي في العالم بالكويت في ستينيات القرن الماضي.
رغم هذه التجربة الغنية، فإن التجاذبات السياسية، وبالأخص بين الوزارات ومجلس الأمة، تعطي انطباعات خاطئة توثر سلباً في مجريات النمو الاقتصادي، حيث صرح على سبيل المثال، في شهر أغسطس الماضي، وزير المالية براك الشيتان، قائلاً: «إن الحكومة قد لا تتمكن من دفع رواتب الموظفين في شهر نوفمبر القادم، أي بعد أيام قليلة من الآن !؟ إذ لم تصدق وكالات التصنيف الائتماني الخبر، فخفضت وكالة «موديز» تصنيف الكويت في شهر سبتمبر من Aa2 إلى A1، مما يتطلب الحذر في إطلاق التصريحات، فالمثل الخليجي يقول: «أنت تأكل التمر وغيرك يعد الطعام»، أي النوى، علما بأن هذا التصريح، والذي ربما هدف إلى الضغط على البرلمان أثار ذعراً اجتماعياً لا مبرر له، كما أنه لا يعكس واقع الأوضاع المالية الجيدة والقوية في الكويت.. لماذا؟
لمعرفة أن ذلك التصريح بعيد عن الواقع، يمكن طرح السؤال التالي: هل مشكلة السيولة لدى وزارة المالية، «مالية» أم«إدارية»؟ إنها مشكلة إدارية صرفة ويمكن تجاوزها بسهولة، إذ أنه من الناحية المالية، تتمتع الكويت، كما ذكرنا آنفاً، بأوضاع مالية قوية وباحتياطيات هائلة، حيث تبلغ موجودات الهيئة العامة للاستثمار 530 مليار دولار، وهي واحدة من أكبر الصناديق السيادية في العالم، وتحقق عوائد سنوية مرتفعة، إضافة إلى إنتاج 3 ملايين برميل نفط يومياً، تقريباً.
إذن، عمق المشكلة يكمن في الإدارة المتعلقة بالعلاقة بين الحكومة ومجلس الأمة، والذي يرفض إعطاء تفويض قانوني للحكومة لإصدار سندات دين يمكن أن تساهم في حل مشكلة السيولة المؤقتة، حيث يرجع ذلك إلى غياب المهنية لدى بعض نواب مجلس الأمة، والذين يعتقدون خطأ أن أدوات الدين العام أمر سيئ! إلا أن الأمر ليس كذلك، فمعظم دول العالم، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية تستفيد من فرص التمويل المتاحة في أسواق الدين، وبالأخص في الظروف الراهنة.
وللمزيد من التوضيح، لا يمكن تصور الاقتصاد العالمي دون أسواق الإقراض، حيث تعتبر القروض أداة مالية واستثمارية مهمة، متى ما تم تقنينها واستخدامها بصورة صحيحة ومجدية، بعيداً عن القرارات غير المهنية.
وفي حالة الكويت، فان هناك طريقين لحل مشكلة السيولة الناجمة عن انخفاض عائدات النفط: الطريق الأول، هو الاقتراض، خصوصاً أن الكويت رغم تخفيض درجتها الائتمانية، فلا زالت تتمتع بواحد من أعلى مستويات التصنيف الائتماني، مما يؤهلها لإصدار سندات أو صكوك بأسعار فائدة منخفضة جداً، كما أنه لا يوجد أفضل من هذه الأوقات للاقتراض، وذلك بفضل وصول أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً، أما الطريق الآخر، فهو إما السحب من الاحتياطي العام، وهذا أمر يحتاج إلى تفويض أيضاً، أو بيع موجودات جيدة بأسعار متدنية، بسبب انخفاض قيمة الأصول الناجم عن جائحة كورونا.
الطريق الثاني غير مهني ومكلف، وذلك عكس الطريق الأول الذي يمكن من خلاله استغلال فرص نادرة في سوق الدين العالمي، ليس لحل مشاكل السيولة فحسب، وإنما لتنفيذ مشاريع تنموية مهمة، فالأموال الرخيصة متاحة وبسهولة للدول التي تتمتع بتصيف عالٍ، إذ أن هذا الأمر لا يقتصر على الحكومات فقط، وإنما على القطاع الخاص أيضاً، والذي يمكنه الاستفادة من هذا الوضع الاستثنائي.
من حيث المبدأ من حق البرلمانات في العالم، فرض رقابة على الأوضاع المالية العامة، وهو أمر مطلوب، إلا أن ذلك لا بد وأن يكون بصورة مهنية وليست شعوبية لكسب ود الناخبين، على حساب تفويت فرص تنموية لا تتكرر كثيراً.
*مستشار وخبير اقتصادي